مع انتشار تنظيم "داعش" على أرض العراق بالسرعة التي حدثت، واستيلاء أكراد مسعود البرازاني على كركوك، طفى على السطح مجدداً مشروع جو بايدن، الرامي إلى تقسيم العراق إلى 3 دول متخاصمة؛ سنية وشيعية وكردية.

وكما يبدو من الصورة التحتية المغطاة بجرائم التنظيمات الإرهابية، تلك المحادثات التي أجراها وزير الخارجية الأميركية جون كيري في بغداد مطلع الأسبوع، بعد اجتماع وفد أميركي في أربيل برئاسة ستيوارت جونز مع قيادات من حزب البعث، و"تنظيم الطريقة النقشبندية" الذي يتزعّمه عزت الدوري وشخصيات عشائرية، قدّم هؤلاء ضمانات وافية بعدم الإضرار بأي مصلحة أميركية من جانب "داعش"، وكذلك من جانب مسلحيهم، مقابل تنفيذ طلب تنحّي نوري المالكي، ومن التعهدات الكلامية ألا يكون هناك مستقبل لـ"داعش" في العراق بعد قيام حكومة ائتلافية بعد تنحّي المالكي، وكأن المشكلة في العراق تتلخص بوجود المالكي في السلطة، وليس الإرهاب الذي هو من نتاج الاحتلال الأميركي للعراق، ثم انتشاره في كل المنطقة تحت شعار "الديمقراطية" الموعودة، و"الحرية" في عدم اختيار طريقة الموت، ولو إعداماً.

يبدو أن الهجمة الأميركية الجديدة المواكبة لانتشار فيروس "داعش" عادت إلى المربّع الأول عند غزو العراق، وهو إلزام العراق باتفاق أمني يعيد على الأقل تطويق بلاد ما بين النهرين مجدداً، ووضع اليد على رقبة سورية بعد الفشل المتكرر عبر الأدوات التي استخدمتها واشنطن، والتي اعتبرها الرئيس باراك أوباما أنها (أي المعارضة المعتدلة) مجرد "فانتازيا" لا يمكنها إسقاط الرئيس بشار الأسد، طالباً في الوقت ذاته من الشعب الأميركي أن يتفهم ذلك، لأن كل الجهود التي صُرفت على المعارضة السورية ذهبت أدراج الرياح.

ويبدو أن "داعش" وأخواتها من الإرهاب المتهمة كل من السعودية وتركيا على وجه الخصوص برعايتها وتصديرها وتمويلها، باتت تهدد حتى تلك الدول، بالإضافة إلى الأردن، الذي تراهن واشنطن عليه ليكون جسر العبور مجدداً إلى المنطقة، بعد أن رفضت بغداد وطهران أيّ تدخل عسكري أميركي مباشر، إلا من خلال الطلب إلى حلفائها وأدواتها في المنطقة وقف تمويل ورعاية الإرهابيين.

الأردن الذي اهتزت قوائمه مع اقتراب "داعش" إلى حدوده مع العراق، بدأ يعيد نشر قواته على الحدود ويرفع جهوزية استخباراته المربوطة بوثاق شديد مع المخابرات الأميركية، مع النواح بأن قدراته محدودة، وبالتالي لا بد من التنسيق مع الولايات المتحدة في "ظل المخاطر والقلق" من "داعش"، الأمر الذي فتح عيون القوى الأردنية للتعبير عن القلق من جعل الأردن جسر عبور لنشر قوات أميركية في المنطقة، تحت ذريعة "حماية الأصدقاء"، وتأمين الفرصة مجدداً لتطويق سورية، والتي وفّرتها "داعش" كذريعة تستند إليها عمان وواشنطن معاً.

إن ما يجري في العراق اليوم ليس إلا مجرد إعادة تموضع للمشروع الأميركي التدميري في المنطقة من البوابة العراقية مجدداً كمختبر تجارب جرى تأسيسه عام 2003، وعلى الأقل ممارسة الابتزاز لدول المنطقة إذا فشل مشروع التقسيم المحدق بالعراق، وهذا يستدعي من العراقيين غير المرتبطين بالمشروع المذكور آنفاً أن يواجهوا تأجيج الصراعات المتنوّعة، وأن ينبروا للبحث والاتفاق على مشروع تأسيس وطني سياسي اجتماعي اقتصادي واضح، يستفيد من التجربة السورية في الصمود، والتجربة الإيرانية في التصاعد، سيما مع القدرات العراقية الهائلة بشرياً واقتصادياً وثقافياً.