في ضوء الاستفتاء الذي جرى للمرة الأولى في اسكتلندا حول الانفصال عن المملكة المتحدة، بدأت أركان الدول الأوروبية تهتزّ خوفاً من التمزّقات التي يمكن أن تضرب أوروبا والولايات المتحدة الأميركية في سياق التعبيرات المجتمعية العاصفة، والتي تحاول الدول المذكورة إخفاء حركتها، على الرغم من استطلاعات رأي متعددة تعكس رغبات جامحة بالاستقلال، لا سيما في الولايات الاميركية، حيث كشف استطلاع الأسبوع الماضي بالتوازي مع استفتاء اسكتلندا أن 25 بالمئة من الأميركيين لم يعودوا يريدون الاتحاد، ويفضّلون الانفصال، مع ملاحظة أن الحركة الانفصالية إلى تزايد.

عاشت بريطانيا التي كانت عظمى حتى الحرب العالمية الثانية، أكثر من أسبوع في حالة رعب حقيقي، خصوصاً عندما أظهر استطلاع عشية الاستفتاء في اسكتلندا أن الأكثرية، ولو بفارق ضئيل، تريد الانفصال عن المملكة المتحدة، بعد أكثر من ثلاثة قرون من الوحدة.

لقد أظهر الاستفتاء الذي كافحت بريطانيا بكل ما أوتيت كي لا ينحج، التوجُّه الشعبي برفض البقاء تحت الهيمنة البريطانية، ولذلك أغلب القادة البريطانيين المتنافسين على كل شيء توحّدوا على رفض استقلال اسكتلندا، التي تشكّل مساحتها أكثر من ثلث المملكة المتحدة، لا بل إن رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، وهو أكثر المرتعبين، عكس المخاوف من تفكُّك المملكة المتحدة بالقول: "كان قلبي سيحزن لو رأى نهاية المملكة المتحدة".

لا شك أن المخاوف لم تتبدد بعد، رغم عدم الانفصال، وقد تمّ التهويل بأن البلد الذي سيفرزه الاستفتاء، إذا كانت النتائج لصالح الاستقلاليين، لن يُقبل ضمن الاتحاد الأوروبي، كما لن تقبل بريطانيا أن تبقى عملته الجنيه الاسترليني، وكذلك لن يُسمح له بالاستفادة الواجبة من النفط في بحر الشمال، والذي يشكّل نسبة عالية من الموازنة، رغم أن البحر في المياه الاسكتلندية، فضلاً عن أن الصحافة البريطانية شنّت أشبه بحرب نفسية فحواها قطع العلاقة مع الدولة التي كان يمكن أن تولد، حتى أن الصحف الأكثر رصانة مثل "الاندبندنت" كتبت أن "مصير الملكة على المحك، وما كان غير مرجَّح أصبح احتمالاً ملموساً، وهو أن الجزر البريطانية قد تستيقظ لتجد أن اسكتلندا التي كانت جزءاً من اتحاد دام أكثر من 300 عام استقلّت بنفسها"، وهذا يعكس الخوف من تكرار الانفصال من المكوّنات الأخرى، مثل ويلز، التي يكنّ أهلها عداءً تاريخياً لبريطانيا، بسبب الشوفينية البريطانية، وكذلك ايرلندا الشمالية التي خاض شعبها حروباً عسكرية للتحرر من القبضة البريطانية.

الاستقلال لم ينجح هذه المرة، رغم الديمقراطية في العملية الإجرائية المواكبة بحرب نفسية وتهديدات اقتصادية وسياسية غير مباشرة، بهدف المحافظة على أعتى الدول الاستعمارية في التاريخ، سيما أنها لو انفضت عنها اسكوتلندا ستخسر مقعدها الدائم في مجلس الأمن، ولذلك كان الترحيب بإفشال الاستقلال واسعاً من الحلفاء الإمبرياليين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، التي قال رئيسها باراك أوباما: "ليس لدينا أي حليف أقرب من المملكة المتحدة، ونتطلع إلى مواصلة علاقاتنا مع كل شعب بريطانيا العظمى وايرلندا الشمالية"، إلا أن الاسكتلنديين فرضوا تحوّلات جديدة على السياسة البريطانية، تتلخّص في الخضوع لتقديم مزيد من الصلاحيات للسلطات المحلية، كما أنها حققت لأقرانها في ويلز وإيرلندا مكاسب ستضطر السلطات البريطانية للتنازل عنها.

رياح الاستقلال بدأت تهبّ على الأقاليم المضطهَدة في أوروبا، وستشهد إسبانيا أولى الاستفاءات في إقليم كاتالونيا في 4 تشرين الثاني، بعد إقرار ذلك من برلمان الإقليم عنوة عن الدولة المركزية في مدريد، وكذلك عاود إقليم الباسك للمناداة بالاستقلال، وكذلك يطالب الكورسيكيون بالانفصال عن فرنسا، ولم تُخف السلطات الأوروبية كافة خلال اجتماعها في بروكسيل خوفها من انتقال عدوى الاستقلال إلى كل المكوّنات الأوروبية، ما يجعل الشهية مفتوحة في أنحاء اوروبا، التي تحاضر في العفاف والديمقراطية والدعوات إلى الاستقلال الذي تحتاج إليهه شعوبها أكثر من أي جهة من العالم.