قبل أيام، اغتيل في مخيم عين الحلوة القيادي الفتحاوي وليد ياسين. فوجئ من شاهد الجثة ان الرصاصة التي اخترقت جسده هي من نوع ثقيل أحدثت فجوة كبيرة بين الضلوع. ثمة من اعتقد بأن الهدف هو اثارة الهلع في قلوب الفتحاويين وغيرهم. لم تُعرف حتى الآن أسباب هذه الجريمة رغم تشابه التوقيع والشكل مع جرائم كثيرة تحدث الآن في الوطن العربي.

يقلق الدكتور اسامة سعد القيادي الناصري العروبي، كما كل أولئك الخائفين من أصابع تريد تفجير المخيّمات او تسهيل مرور واقامة «داعش» فيها. يتحلّق الزوار في مكتبه الصيداوي. يتبادلون الحديث. ليسوا كلهم من صيدا. فيرا يمِّين، عضو المكتب السياسي في تيار «المردة»، جاءت من اهدن. لا يؤثّر طول الطريق بين الشمال والجنوب على تدفق كلامها ودقة التحليل والابتسامة الدائمة. قيادي ناصري شاب جاء من القاهرة. ضيوف آخرون نزلوا من الجبل والبقاع... هدفهم في القاعة المجاورة.

يتشابك الحديث. يدخل شاب يدعو الجميع الى القاعة المجاورة. هي قاعة المناضل العمالي الصادق الشهيد معروف سعد. فيها الليلة حدث كبير. فجأة تضجّ القاعة بالتصفيق. ترتفع الموسيقى. يبتسم أسامة سعد وصحبه. بين الموسيقيين والمغنين فتاة طويلة القامة. عيناها الفرحتان تلمعان تحت نظّارتيها. تحت النظّارات تلمع شفتان بلون حمرة فاقع يناقض قميصها الاصفر. تغني. تتراقص. تتمايل. ينتفض شعرها الجعدي فوق الرأس، ويستقر تحت الكتفين، ثم ينتفض. الى جانبها، سيدة اكبر منها سناً. تناقضها في الشعر القصير والملبوس الرهباني. تكرّر ايماءات الوجه والعينين. توحي بأنها احدى ممثلات الافلام الصامتة الايمائية الضاحكة من عصر تشارلي شابلن والاخوين لوميير. تغمض عينيها الصغيرتين حين تسلطن بالغناء. تنثر مع رفيقتها والكورس أصواتهم الرائعة على الجمهور. ثم تفتح عينيها لتشاهد انفعال الجمهور. يبادلها الجمهور الحب تصفيقاً وانتعاشاً وفرحاً منذ اللحظات الاولى. يتلاشى القلق شيئاً فشيئاً من رأس الدكتور اسامة. يبدأ، كما فيرا يمِّين وكل الصف الامامي، بالتصفيق تارة او بالنقر على الركبة تارة أخرى.

ليس غير زياد رحباني يعرف كيف يغلق الباب، ولو قليلاً، على هذه الصحراء العربية الغارقة في جرائم التكفير والارهاب والمذهبية. ليس غيره يستطيع أن يفتح باباً أوسع وأرحب وأجمل وأعمق صوب الحلم والفن المحترف والمحترم والراقي والنبيل.

تتقدّم منال سمعان بفستانها الاسود صوب المايكروفون. تخفّضه قليلاً لأن كوميديي برنامج «إربت تنحل» سبقاها اليه فرفعاه. يعطي المايستور المتعدد الوظائف والمواهب هاني السبليني إشارة الانطلاق. ما ان تنثر هذه المبدعة السورية أولى جملها الصوتية على الجمهور حتى تصدح الآهات في كل القاعة. فيروزية الصوت هي. مشرقة الاطلالة على بساطة. يسكنها الفن في كل جوارحها فتبدع. لعلها الوحيدة التي تستحق فعلاً لقب فيروز الثانية (أطال الله بعمر الاولى لأنها عصية على التكرار).

يصفّق لها الجمهور من اولى جملها. يرتفع التصفيق فجأة أكثر. ثمة من دخل امام الجمهور من دون ان ينظر الى الجمهور. رأس منحنٍ بنظّارتيه. «جيليه» بنية فوق قميص مقلَّم. يداه ملفوفتان بقماش طبي أسود. أشياء كثيرة اخرى على تلك اليدين اللتين سيكتشف العالم يوماً، ربما، أنهما لم تُعطيا سوى لعظماء مثل شوبان وباخ وموزار وارمسترونغ وغيرهم. مشاغب منذ دخوله. لو لم يشاغب لما كان هو. ولأنه هو، فكل مشاغبة منه تثير ضجة. يفهمها قليلون جداً، ويعزُّ فهمُها على كثيرين، فينتقدون او يمدحون دون ان يعوا كنه ما قيل.

حين ينتقد زياد رحباني حزب الله، هذا يخدم الحزب. من لا يقبل الانتقاد هو حزب شمولي. ولأن الحزب ليس شمولياً، فهو فهم ان نوايا هذا العبقري بيضاء كتاريخه، نضالية حيث يعزّ النضال، صادقة كجملة موسيقية صافية رغم تعقيدها تخرج من تحت أنامل زياد رحباني.

هذا في كل الاحوال أمر عابر. الأهم، والذي ربما لن يفهمه كثيرون لا الآن ولا غداً ولا بعد عقود، هو ان موسيقى زياد رحباني تخرج من اطار التصنيفات المعهود. حين يغيب هذا الاسطورة في عالمه وهو منحن فوق البيانو، يرى في الموسيقى ما يشبه رؤى الصوفي في ايمانه. لم ينظر الى الجمهور أبداً، نظر الى داخله او الى فرقته. وحين يؤلّف، فهو يؤلف، لا يسرق ولا يتأثر ولا يتفنّن في أخذ جملة من هنا وأخرى من هناك كما يفعل غيره من مدّعي التأليف. لا، هو يؤلّف، ويتعب، ويسهر ويُتعب من معه، ومن يؤلف هذا النمط من الموسيقى فإنما يستند الى ثقافة هائلة ومعرفة واسعة غريبة عن العالم الذي يعيش فيه زياد رحباني. وحدها عبقريته عرفت كيف تبسِّط وتسهِّل هذه الغرابة لتصبح نغمات مألوفة على آذان سامعيه.

والأهم أيضاً، ان زياد رحباني السياسي ليس مجرد كاتب او قائل جمل مثيرة للضحك. هو منذ ريعان شبابه حتى اليوم لم يخطئ مرة في الطريق. قال ما حصل قبل ان يحصل بسنوات. لا يزال يقول ما قد يحصل قبل ان يحصل بسنوات. ضحك الجمهور في صيدا على ما كتب للممثلين الذين قرأوا كلامه، لكن لا شك ان ندرة بينهم فهموا حجم الرسائل التي بثها في كلمات بسيطة. حين رنّت جملة «يا عمال العالم اتحدوا»، وحين أبدى اعجاباً بالسيد المسيح لأنه صفع يهوداً وتجاراً، وحين أشار الى القرآن الكريم من زاوية كرمه، وحين استرجع شيئاً من الامام علي وربطه بما كتبه ماركس... وحين اختصر عبقرية الصين بجمل قصيرة مثيرة لقلق واشنطن، لم يكن زياد رحباني يقول هذا فقط لكي يضحك الجمهور... انه يعيش في عالمه، ولعله في ذاك العالم لا يزال يحتفظ بما هو أجمل وأنقى وأعمق وأصفى مما يحيط به.... فكيف لا يفكر بالرحيل.