يُواجه مسيحيّو لبنان حالياً مَرحلة شديدة الصُعوبة في تاريخهم، وكأنّهم يعيشون "زمن الإنحطاط" من دون أن تبادر أيّ جهة سياسية أو دينيّة أو أهليّة، للقيام بتحرّك جدّي ولا بجُهد فعّال من باب محاولة الخروج من هذا الواقع المأساوي المُتجسّد بوقائع ثابتة، أبرزها:

أوّلاً: غياب دور البطريركيّة المارونية بشكل شبه كامل عن التأثير على الحياة السياسية الداخلية، إن على المستوى اللبناني العام أو المسيحي الخاص، حيث أنّ البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الذي جاء بآمال كبيرة، محاولاً إعادة الديناميّة إلى الواقع المسيحي المُتراجع منذ عقود، سُرعان ما إصطدم باختلاف الرؤية وبتباين التكتيكات مع الكتل السياسية المسيحيّة الكبرى، وفي ما بين هذه الأخيرة، فآثر الإبتعاد عن الضوء والإنكفاء عن النشاط الداخلي المُؤثّر، خاصة في ظلّ عدم التكتّل حوله ودعمه من قبل القوى المسيحيّة كلّها لاعتبارات مُختلفة، ليَسقط سريعاً شعار "شَراكة ومحبّة" ويُصبح في غياهب النسيان!

ثانياً: شغور منصب رئاسة الجمهوريّة منذ 25 أيّار الماضي، أيّ منذ نحو خمسة أشهر، من دون وجود أيّ بوادر تعد بكسر هذه الحلقة المُفرغة، جعل الدور المسيحي في أعلى منصب رسمي في السلطة اللبنانيّة في الجرّار، بينما تولّى مسؤول سُنّي وآخر شيعي إدارة دَفة الحُكم بشقّيه التنفيذي والتشريعي، علماً أنّ مقولة "إتخاذ القرارات بالإجماع" داخل الحكومة ساقطة سلفاً بحكم الإنقسام السياسي والطائفي وحتى التنافس على السلطة. وتمسّك العماد ميشال عون بموقفه الرافض للتوافق على رئيس وسطي، بحجّة أنّ هذا الأمر يُضعف المسيحيّين ويُمثّل إستمراراً للتعدّي على حقوقهم، أتى بنتائج عكسيّة بحُكم الأمر الواقع، باعتبار أنّ فرص وصول "رئيس قوي" إلى قصر بعبدا في ظلّ المُعطيات الداخلية والتوازنات الإقليمية الحالية، ضعيفة جداً، علماً أنّ قرار "الجنرال" بتجاهل الفريق المسيحي الآخر، وبمحاورة "تيّار المستقبل" مباشرة نتيجة إعتباره إياّه الوصيّ على هذا الفريق، أدّى إلى تعقيد الأمور أكثر، ودفع خصوم عون إلى المساهمة في عرقلة وصوله، نتيجة خلافات مُستحكمة بين الطرفين، بدءاً بتضارب المصالح وصولاً إلى إختلاف التموضع السياسي والرؤية الإستراتيجية.

ثالثاً: الإنقسام السياسي العمودي بين القوى المسيحيّة الأساسيّة، حيث يوجد خلاف جوهري بين كل من "التيّار الوطني الحرّ" و"تيّار المردة" من جهة، وأحزاب "القوات" والكتائب" و"الأحرار" ومجموعة من النوّاب المسيحيّين المُستقلّين من جهة أخرى، بالنسبة إلى النظرة إلى أسس قيام الدولة وسياستها العامة، ودور "حزب الله" ومسألة الإبقاء على سلاحه، وكيفيّة التعاطي مع النظام السوري ومع معارضيه، وطبيعة العلاقات التي يجب أن تجمع لبنان مع إيران ومع الدول الخليجيّة وتلك الغربية، إلخ. وهذا الإنقسام الجوهري أسفر عن إطلاق "فيتوات" مُتبادلة كبّلت الدور المسيحي، ودفعت كل طرف إلى نسج تحالفات مع مجموعات سياسية داخلية وخارجية في محاولة لتعزيز نفوذه، لكن هذه الخطوات لعبت دوراً عكسياً حيث أدخلت المسيحيّين طرفاً في نزاع سياسي وعقائدي ومذهبي إقليمي-دولي، من دون أن يكون لكل الجهات المسيحيّة المعنيّة أيّ رأي على مستوى القرار الإستراتيجي، وحتى أيّ تأثير على مستوى الأحداث التكتيّة في المنطقة.

رابعاً: المعارك والحروب المُستمرّة في أكثر من دولة عربيّة، ونُمو الخطر الإرهابي، جعل الكلمة الفصل للسلاح ولحامليه. وبما أنّ صفحة الأمن الذاتي المسيحي قد طُويت بعد فترة قصيرة من إنتهاء الحرب، وجد المسيحيّون أنفسهم في قلق كبير على المصير وحتى في خوف على النفس في القرى والبلدات الحدوديّة وتلك المعزولة عن مناطق الإنتشار الجغرافي المسيحي. وبلغ يأس بعض الأطراف حدّ التعويل على حماية سلاح "حزب الله"، تسليماً بالعجز المسيحي الكامل حتى بالقدرة على الدفاع عن النفس.

خامساً: الفشل في إحداث أيّ تغيير في السياسة اللبنانية منذ العام 2005 حتى اليوم، أي منذ العودة إلى السلطة بشكل واسع، إن عبر حكومات تضم كل الجهات السياسية المسيحيّة أو بعضها، حيث إصطدم الوزراء المسيحيّون، حتى من يحملون لواء الإصلاح والتغيير، بعراقيل الإنقسام السياسي والطائفي والمذهبي في لبنان. وبلغ الأمر حد نجاح بعض الزعران و"قُطاع الطرق" بإفشال قرارات وزاريّة وبمنع تمريرها، مستفيدين من حمايات سياسية ودينيّة مختلفة في بعض الحالات، ومن إنتماء مذهبي وعشائري مسلّح في حالات أخرى.

وفي الخلاصة، من دون دور للبطريركيّة المارونية، ومن دون رئيس جمهورية مسيحي، ومن دون توافق سياسي بين القوى المسيحيّة، ومن دون سلاح للحماية الذاتية بالحد الأدنى، ومن دون قدرة على التأثير في القرارات السياسية... الأكيد أنّه زمن الإنحطاط المسيحي بكل مفاعيله السلبيّة والتدميريّة، وتجاهل هذا الواقع لغايات سياسية ضيّقة هو جريمة أخرى إضافيّة بحقّ المسيحيّين.