كان لا بدّ من توقّع المخاطر نتيجة فوز رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في الانتخابات، ومن ثمّ نجاحه في تأليف حكومة من اليمين المتطرّف بأرجحية صوت واحد فقط.

انتصار نتنياهو الإنتخابي شكّل ضربة قاسية للإدارة الاميركية التي خاضت مواجهة مكشوفة معه، فيما كانت واشنطن منشغلة في إتمام صفقتها السياسية مع طهران بعد عقود طويلة من العداء.

وهو في النهاية انتصار للقوى الاسرائيلية داخل مراكز السلطة ضدّ مشاريع التسوية التي سعت اليها واشنطن والتي منيت بالفشل منذ اغتيال اسحق رابين وتوقف مشروع السلام. يومها قيل إنّ المجموعة التي تتولّى أمن رابين شاركت في مؤامرة الاغتيال لوقف قطار السلام، مع الاشارة الى أنها المرة الاولى التي يُغتال فيها مسؤولٌ إسرائيلي رفيع المستوى. وكان واضحاً أنّ جزءاً أساسياً من المؤسسات الاسرائيلية الكبرى إنما يرفض السلام.

ولم يتأخر الوقت مع محاولة واشنطن إنقاذ مشروعها، فشجّعت شيمون بيريز الذي تولّى رئاسة الحكومة بشنّ حرب خاطفة في جنوب لبنان تسمح له بتوجيه ضربة لـ«حزب الله» وتعزيز شعبيّته قبل الدخول في الانتخابات. لكنّ المجموعة الاسرائيلية النافذة كانت في المرصاد أيضاً، فنفَّذت عن سابق تصوّر وتصميم مجزرة مروعة في قانا بهدف إجهاض حظوظ بيريز وهذا ما حصل.

ومناسبة هذا الحديث اليوم هي القدرة المتنامية لهذه المجموعة داخل مراكز النفوذ الاسرائيلية ما أتاح لها إحباط مشاريع التسويات الاميركية تحت عباءة نتنياهو. وهذه الحكومة الاسرائيلية الغاضبة من التسوية الاميركية - الايرانية خشية تأثيرها سلباً في الوظيفة الاقليمية لإسرائيل، تحاول فرض أجندتها على الفوضى التي ولّدتها واشنطن في الشرق الاوسط تحت عنوان «الربيع العربي».

واشنطن وانسجاماً مع مصالحها تسعى الى خريطة جيو- سياسية جديدة على أساس كيانات تحظى بشخصية مستقلّة ولكن ضمن كلّ دولة ووفق الحدود المعروفة على أن تنشأ لاحقاً سلطة لكلّ دولة تُكرّس الواقع الجديد تحت سقف تفاهمها مع إيران.

لكنّ إسرائيل تريد زيادة منسوب الفوضى وتفكيك الدول الى كيانات مستقلة بالكامل ومتناحرة في ما بينها، ما يعني زوال حدود «سايكس بيكو» نهائياً. لذلك مثلاً شجّعت إسرائيل الأكراد على المطالبة باستقلال كامل لدولتهم وهو ما عارضه البيت الابيض صراحة على الأقل حتى الآن.

وانطلاقاً ممّا سبق تسعى إسرائيل إلى إحداث مجازر في حق الدروز جنوب سوريا بهدف دفع هؤلاء الى طلب مساندة دروز إسرائيل وضمناً المساندة الاسرائيلية ما يعني إنجاز الخطوة الأولى في اتجاه فصل الجنوب عن الجسم السوري.

ولا تقف «شهوات» إسرائيل هنا، بل إنها راقبت بكلّ تفصيل المعارك «الرشيقة» التي خاضها «حزب الله» في جبال القلمون الوعرة والصعبة وخرجت الحكومة الاسرائيلية باستنتاج واضح: «حزب الله» طوّر قدراته القتالية بمقدار كبير واحترافي ما يجعل أيّ ضربة عسكرية له مغامرة متهوّرة وغير مضمونة النتائج.

لذلك تريد إسرائيل فتحَ جرح ونشر الفوضى في الجنوب. فاشتعال السويداء سيساهم في دفع التنظيمات المتطرّفة للانتقال الى منطقة شبعا تحت أعين الرقابة العسكرية الاسرائيلية، وفتح باب الفوضى في منطقة تحتضن خليطاً مذهبياً إضافة الى مخيمات للنازحين السوريين. والفوضى في الجنوب قد تفتح باب الفوضى في كلّ أنحاء لبنان.

وتكشف أوساط ديبلوماسية مطلعة أنّ المسؤولين الكبار في اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الاميركية تواصلوا مع السلطات الاسرائيلية بناءً على طلب الادارة الاميركية ومارسوا ضغطاً لعدم الذهاب في مشاريع الفوضى في السويداء وجنوب لبنان.

إذ إنّ واشنطن التي تُحضّر لإنجاز تفاهمها النهائي مع طهران والذي يبدو توقيعه حتمياً حتى لو أدّى ذلك لتمديد زمني إضافي عن الموعد المحدّد، إنما تريد البدء بالبحث في الملفات الملتهبة لدول المنطقة بما فيها العراق واليمن وسوريا ولبنان.

ذلك أنّ اللهيب الذي تصاعد منذ توقيع الاتفاق الاطار الذي يهدف الى ترتيب مناطق النفوذ والتقاط الأوراق الميدانية وإنهاك بعض القوى لدفعها الى طاولة المفاوضات وفق سقف أدنى، تجد واشنطن أنْ لا بدّ من احتوائه مجدّداً وإعادة ضبطه ضمن حدود معينة منعاً لإنفجار كامل وبالتالي فوضى شاملة كما ترغب إسرائيل.

لذلك تحاذر واشنطن «توريط» الدروز السوريين في علاقات مع دروز إسرائيل ما سيقف حائلاً بوجههم في إبقاء مقاعدهم في سوريا ما بعد التسوية عندما يحين الموعد. كذلك فإنّ واشنطن تخشى من أن يؤدّي فتح الجرح انطلاقاً من شبعا الى فتح الطريق أمام فوضى لبنانية داخلية بعدما نجح الجيش في منع تمدّد «فوضى» عرسال الى قلب البقاع.

صحيحٌ أنّ واشنطن تفكر في إعادة تحريك قنوات التفاوض نهاية هذا الصيف وبعد التوقيع النهائي لكنّ إيران التي لا تبدو راضية عن موازين القوى الحالية إن في العراق أو في سوريا، تسعى إلى إنجاز نقاط ميدانية تتيح لها لاحقاً الجلوس في مقعد مريح حول طاولة التفاوض ولكن قبل ذلك... الكلمة للميدان.