لم تعد الاعتداءات ذات الطابع العنصري التي تشهدها الولايات المتحدة قابلة للردم بغطاء شفاف، ولا بأهالة التراب على المشاهد الدموية التي تشبه إلى حد كبير ارتكابات إرهابيي "داعش"، كي لا يشاهدها أحد في العالم، أو لمنع أن يشهد أحد على استفاقة متأجّجة للعنصرية غير الخامدة أصلاً في نفوس الغربيين.

الحدث الدموي الذي شهدته كنيسة "عمانوئيل الميثودية" للأميركيين من أصل أفريقي ليس يندى له جبين الإنسانية وحسب، بل يكشف تجذّر ثقافة القتل بدم بارد لأولاد الشر الأميركي، حتى داخل الكنائس حيث الناس يتعبدون.. ولا يكفرون، بغض النظر عن الدين والعرق.

لقد أقدم الشاب الأبيض ديلان روف، الذي ينتمي إلى فرقة عنصرية تعلن كراهيتها العميقة علانية للعرق الأسود، واسمها "البيض الفوقيون"، على ارتكاب مذبحة داخل الكنيسة بإطلاق النار على عشرة أشخاص، فقتل تسعة مصلين، بينهم 4 قساوسة، بمن فيهم عضو راعي الكنيسة والعضو الديمقراطي في مجلس الشيوخ بولاية كارولاينا؛ كليمنتا بينكني، وتعمّد ألا يطلق النار على أحد الحضور ليكون شاهداً ويخبر.

بالطبع، ليست هي الجريمة الأولى من نوعها هذا العام، بل إن ما دوّنته السلطات الأميركية نفسها من الصيف الماضي إلى اليوم بات مقلقاً لتلك السلطات التي اعتادت على نشر بذور الفتن على أنواعها على مدار الكرة الأرضية، فقد كان القتل المتعمَّد لشاب أسود العام الماضي في فرغيسون على يد الشرطة حادثاً اعتُبر لطخة عار كبرى في سجل المؤسسة الأمنية الأميركية التي تتباهى بحسن السلوك والانضباط داخل أجهزتها، وهي الأجهزة المنخورة حتى العظم بفساد لا علاج له. هذه المؤسسة الأمنية هي نتاج ثقافة الفوضى والقتل والدمار التي ترعرعت عليها الإدارات الأميركية منذ تكوينها ومسار نشأتها، وأهدافها الاستعمارية القاتلة تحت شعارات التضليل بالحرية والديمقراطية.

لقد أحصت التقارير الصادرة عن مكتب التحقيق الفدرالي ارتفاع معدل الحوادث العنصرية 16 بالمئة خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، وجاء تكرار الأحداث على أيدي الشرطة في الشهور الأخيرة؛ من فيرغيسون إلى بالتيمور، والتي ترافقت مع مسيرات غاضبة تخللها عنف وشغب في ولايات عدة، ليعيد مسألة التمييز العنصري والكراهية إلى الأميركيين من أصل أفريقي إلى صدارة الاهتمام، بعد خمسين عاماً على بدء العمل بقانون الحقوق المدنية، والذي يمنع العنصرية وأي نوع من أنواع التمييز.

لقد أجبرت الجرائم التي تحاول السلطات تلطيف وقعها باعتبارها مجرد "حوادث"، الرئيس الأميركي باراك أوباما على الاعتراف بأن المسألة ليست عابرة، "وتثير أسئلة حول الصفحة القاتمة من تاريخنا"، بعد أن وصف الجريمة بـ"أعمال قتل عبثية"، قائلاً: "من الخطاً أن نظن أن هذا النوع من العنف الجماعي لا يحدث في دول متطورة أخرى".

لقد فات الرئيس أوباما أن الدول الأخرى، ولو كانت من طبيعة استعمارية، لكن تكوينها لا يقارَن بنشأة الولايات المتحدة التي قامت على إبادة الشعوب الأصلية للأرض، ومن ثم اغتصابها.

الولايات المتحدة تحمل بذور تفكّكها، وما تصاعد الروح العنصرية والجرائم المرافقة لها واستناداً إلى الإحصاءات الأميركية نفسها إلا دليل ومؤشرات على التصادم، فالانهيار والتفكك، وإن احتاج الحدث الكبير لمزيد من الوقت.