في انتظار ولادة الاتفاق النهائي على البرنامج النووي الإيراني ما بين واشنطن وطهران، تزداد الإشارات المعبّرة حول ملفات المنطقة، وآخرُها ما صدرَ عن مساعد وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان حيالَ عدم بقاء بشّار الأسد رئيساً لسوريا مدى الحياة.

في جوانب هذه الرسالة مؤشّرات مشابهة لما كان صدر عن وزير الخارجية الأميركي جون كيري حول وجوب التفاوض مع الأسد لإرغامه على الدخول في المفاوضات. يومَها صَدر موقف كيري قبَيل توقيع الاتّفاق الإطار، فيما موقف عبد اللهيان يستبقُ توقيعَ الاتفاق النهائي.

في موقف كيري إقرارٌ إلى حدّ الالتزام ببقاء الأسد حاليّاً للمشاركة في ولادة التسوية في سوريا، وفي الموقف الإيراني إقرار إلى حدّ الالتزام بأنّ بقاءَ الأسد في موقع الرئاسة سيكون مرحلياً، أو يمكن الاستنتاج بأنّه حتى نهاية ولايته الحالية على أقلّ تقدير. جديد هذا الكلام الإيراني، وهو الأوّل من نوعه، أنّه يأتي في إطار موقف رسمي وقبَيل توقيع الاتفاق.

قبلَه كان كلام للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وُصِفَ بأنّه بمثابة خريطة طريق للتسوية في سوريا، وبين هذين الموقفين دعوة روسيّة إلى إنشاء تحالف إقليمي ضد «داعش» تشارِك فيه سوريا والسعودية جنباً إلى جنب، إضافةً إلى تركيا والعراق والأردن.

ولا حاجة للتكرار أنّ مِن السذاجة في مكان النظر إلى الاتفاق النووي من الناحية التقنية البحتة، وإلّا لَما كان أخَذ كلّ هذا الوقت للاتفاق عليه، تماماً كما حصلَ مع كلّ من باكستان والهند، حيث استغرقَت المفاوضات على برامجهما النووية وقتاً محَدّداً.

وبالتالي مِن المنطقي الاستنتاج أنّ ترتيبات إطلاق ورشة تفاوضية سياسية في المنطقة ستَلي توقيعَ الاتفاق النهائي. وانطلاقاً من المؤشّرات التي ذكرناها فإنّ تفاهمات عريضة يَجري التوافق على عناوينها لإطلاق عجَلة التسوية في سوريا، بالتأكيد إلى جانب ملفّات اليمن، حيث سيُعاد تثبيت وقفِ إطلاق النار قريباً جداً، والعراق ولبنان بطبيعة الحال.

كلّ تلك الورشة تنتظر توقيعَ الاتفاق النووي، لتدخلَ بعدها إيران من الباب العريض طرَفاً أساسياً في الشرق الأوسط للمشاركة في صوغِ الحلول إلى جانب أطراف أخرى ولا سيّما منها السعودية.

وفي دليلٍ إضافي على حتمية توقيع الاتفاق، تكشفُ أوساط ديبلوماسية فرنسية عن ورشةٍ فرنسية قائمة تحضيراً لزيارةٍ سيقوم بها وزير الخارجية لوران فابيوس لطهران مصطحِباً معه رجالَ الأعمال الكبار، وذلك خلال المرحلة المقبلة. من هنا فرصةُ الأمل التي يعَوِّل عليها اللبنانيون للخروج من المأزق.

ومِن المنطقي الاستنتاج أنّ قاعة الانتظار التي يجلس لبنان على مقاعدها، لا بدّ مِن أن تكون هادئة، ما يَعني أنّ الستاتيكو في لبنان يجِب صونُه، في انتظار أن يحينَ موعدُ وضعِ الملف اللبناني على الطاولة، ربّما بالتزامن مع إنجاز تفاهماتٍ عريضةٍ ما في سوريا. لكنّ الوضعَ انفجَر فجأةً وذهبَت الأمور دفعةً واحدة في اتّجاه الصِدام.

في العِلم السياسي يقال إنّ مِن الخطأ مناقشة الحادثة في حدّ ذاتها، بل يجب البحث عن الأسباب الحقيقية التي أدّت إلى وقوعها، والنظر إلى الوجهة الحقيقية التي تتّجه إليها الأمور.

على الرغم مِن ذلك فإنّ النقاشَ الداخليّ في لبنان، وكالعادة، يَغرق في تصعيد السِجال الدائر من دون الالتفات إلى الأسباب الفعلية والمسار الذي ستَسلكه الأمور. فالنزاع الذي يكاد يُمَزّق الحكومة لم يأتِ فجأةً ومِن عدم، هو في الحقيقة امتدادٌ «مقنع» للنزاع الكبير بين تيار «المستقبل» و»حزب الله» وفقَ امتداده الإقليمي بين إيران والسعودية، ولأنّ طاولة الحوار مطلبٌ دوليّ كبير، حتى الهدف منها الحفاظ على الاستقرار الأمني وبالتالي الستاتيكو القائم، فإنّ النزاع تحَوَّلَ في اتّجاه آخر داخلَ مجلس الوزراء.

ويجب الإقرار أنّ تيار «المستقبل» نجَح في كسبِ الوقت في حوار مع العماد ميشال عون لم يكسب منه الأخير شيئاً. وحين دقّت الساعة انفجَر الخلاف. فريق حزب الله - عون مقتنع بأنّ تيار «المستقبل» لا يزال يراهن على تطوّرات عسكرية في سوريا وعلى سقوط قريب لحَلب، لكنّ الأهمّ على سقوط حمص والوصول إلى لبنان حيث تصبح الحاجة إليه أكبر بعد انقلاب موازين القوى، ما يَعني أنّه يريد كسبَ الوقتِ وعدمَ تقديمِ أثمان في انتظار هذه اللحظة.

الأكيد أنّ عون لم يعُد قادراً على العودة إلى الوراء، والأكيد أنّ المسألة تجاوزَت جدولَ أعمال مجلس الوزراء لتصلَ إلى النظام السياسي القائم في لبنان. وبتعبير أوضَح باشرَ عون توَغّلَه في «اتّفاق الطائف» وجَدواه، في وقتٍ كان البعض قد ردَّدَ سابقاً وجود تفاهم ضمني بين عون و»حزب الله» على تطيير هذا الاتّفاق.

طبعاً «حزب الله» يناسبه سلوك هذا المسار الآن وفي هذه اللحظة الإقليمية لفرضِ هذا الواقع على طاولة المفاوضات لاحقاً. وعون الباقي موَقّتاً في الحكومة كونها تمنحه هامشاً أوسعَ للمناورة، بات مائلاً في أيّ لحظة لتطييرِها، طبعاً بالتفاهم مع الحزب.

وحتى ولو افترَضنا أنّ التصعيد أوقِف عند هذه النقطة، وافترَضنا أيضاً أنّه تمّ فرضُ تسوية دولية أدّت إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية، كيف سيتعامل بعدها عون ومعه «حزب الله» مع ترشّح الرئيس سعد الحريري لرئاسة الحكومة أو أيّ شخص محسوب على «المستقبل»، إنْ على مستوى رئاسة الحكومة أو حتى على مستوى مختلف وظائف الدولة؟

الأزمة باتت أكبرَ بكثير من أزمة آليّة عمل للحكومة، ربّما لذلك تدخّلَت واشنطن لدى السعودية وسألَتها للمرّة الأولى منذ مدّة غير قصيرة عن رأيها بما هو حاصل في لبنان.

ذلك أنّ واشنطن الحريصة على استمرار الستاتيكو الحالي مع استقرار أمنيّ وحكومي لا تزال تحتاج إلى بعض الوقت قبل وضع الملف اللبناني على طاولة المفاوضات. لكنّ الانفجار في لبنان أصبح قريباً جداً.