عادت الحكومة اليونانية إلى الخضوع للابتزاز الذي مارسته الرأسمالية الأوروبية النيوليبرالية المتوحشة، رغم رفض غالبية الشعب اليوناني شروط التقشف الأوروبية عبر استفتاء شعبي غير مسبوق، منذ نشوء الاتحاد الأوروبي، والذي حصل في ظل التهديد الذي مورس من قبل الدول الغنية المهيمنة على الاتحاد، لا سيما ألمانيا، بإخراج اليونان من منطقة اليورو، إذا قال شعبها لا لحزمة الاصلاح الأوروبية المطروحة لقاء مد اليونان بجرعة جديدة من الدين، مما يؤدي إلى المزيد من غرقه في حلقة الدين الجهنمية التي جعلت الشعب اليوناني عبداً يعمل من اجل سداد الفوائد المتزايدة للدين المرتفع، الذي بات يناهز التريليون يورو.

وجاء خضوع أثينا، بعد المرونة المفاجئة التي قدمتها الحكومة اليونانية والبرلمان اليوناني بقبول حل وسط يقضي بزيادة الضريبة على القيمة المضافة إلى 23 بالمائة، ورفع سن التقاعد إلى 67 سنة، وخفض الإنفاق العسكري، وحصل ذلك على الرغم من أن موقف اليونان قد قوي بعد الاستفتاء، وبعد انقسام الموقف الأوروبي نتيجة الخوف من نتائج التخلي عن اليونان وعدم التجاوب مع مطالبه بشطب جزء من ديونه، وإعادة جدولة الدين وتخفيف شروط التقشف، فيما كانت مارست واشنطن عبر الرئيس باراك اوباما ضغوطا على قادة أوروبا للحيلولة دون خروج اليونان من منطقة اليورو وذلك خوفا من النتائج السياسية والاقتصادية المترتبة، على ذلك والتي قد تؤدي إلى انتقال اليونان إلى طلب المساعدة من روسيا والصين، إلى جانب انعكاسات ذلك على دول أوروبية أخرى تعاني من أزمات اقتصادية ومالية.

وقد أدت المرونة اليونانية إلى إعادة تصلب موقف الدول المهيمنة على الاتحاد الأوروبي وتشجيع هذه الدول الأوروبية الدائنة على العودة إلى التشدد ورفع سقف شروطها لإخضاع اليونان، وجعلها تدفع ثمن محاولة تمردها على أسيادها، وهذا ما حصل من خلال قبول أثينا بالشروط الجديدة للحصول على قرض جديد قيمته 86 مليار يورو، وهذه الشروط دفعت اليونان ثمنا كبيرا من خلال القبول ببيع جزء كبير من قطاعها العام، ووضع عائداته في صندوق خاص كضمان للدائنين، أي أن الدائنين أرادوا بذلك الحصول مسبقا على أموالهم وفوائدها في حال تخلفت أثينا عن السداد، وقد عبر عن هذا الواقع المرير رئيس الوزراء اليوناني تسيبراس الذي تحدث عن تعرض اليونان للابتزاز مما وضعها بين خيار من اثنين: إما الرفض والخروج من منطقة اليورو ومواجهة الافلاس، أو القبول بهذا الابتزاز.

لكن هل سيؤدي ذلك إلى مساعدة اليونان على الخروج من أزمتها، أم انه سيؤدي إلى تأجيل انفجار الأزمة بعد أن تبلغ، بعد سنة أو اثنتين أو ثلاث، مستوى أكثر تقدما؟

وما هي دلالات ما حصل؟

وأخيرا ما هي الآفاق المتوقعة للأزمة على الداخل اليوناني وعلى صعيد الاتحاد الأوروبي؟

الواضح أن الشروط الجديدة التي قبلتها اليونان جاءت أكثر قساوة مما كان معروضا من الدائنين قبل إجراء الاستفتاء، ما يعكس إصرارا من هؤلاء الدائنين على امتصاص أكبر قدر من أموال وثروات اليونانيين المتبقية على شكل مؤسسات عامة تشكل ضمانة لبقاء دولة الرعاية الاجتماعية التي تتلاشى شيئا فشيئا مع اشتداد شروط الدائنين التي تدفع إلى بيع ممتلكات الدولة واستيلاء الرأسمالية الغربية المتوحشة عليها لجني المزيد من الثروات لحل أزماتها الناتجة عن تراجع أرباحها الفاحشة نتيجة الأزمة المالية والاقتصادية التي تفجرت عام 2008 في الولايات المتحدة وأصابت العالم لا سيما الدول الغربية.

فخطة الإنقاذ المالي التي قبلت بها حكومة تسيبراس، تقضي، وصولاً إلى بدء صرف قروضها، بأن يوافق برلمان اليونان على أربعة تشريعات على وجه السرعة وهي:

ـ رفع الضرائب، اقتطاعات من معاشات التقاعد، تحرير الاقتصاد أكثر وما يناسب ذلك من «إصلاحات» في سوق العمل، إضافة إلى تبنّي خطة خصخصة تبدأ ببيع شركة الكهرباء الوطنية. وهذه الصفقة تُلزم اليونان ببيع ممتلكات عامة، بما يوفر 50 مليار يورو، لتوضع في صندوق يشكل «ضمانة» لقروض الإنقاذ الجديدة..

غير أنه لا يمكن اعتبار ما جرى اتفاقا أو صفقة، وإنما هو خضوع واستسلام مذل لشروط الدائنين الذين باتوا بموجب الشروط الجديدة يتحكمون بسياسة الدولة اليونانية وبحياة اليونانيين ويشرفون على الصندوق الذي ستوضع فيه أموال المؤسسات العامة التي سيتم بيعها للقطاع الخاص، بما يذكر بسيطرة فرنسا وبريطانيا واشرافهما على وزارة المالية المصرية في عهد الخديوي إسماعيل في القرن التاسع عشر لجباية ديونهما التي كبلوا بها مصر.

وجل ما نجح به تسيبراس القول: «منعنا نقل ممتلكات عامة إلى خارج البلاد، وحُلنا دون تنفيذ خطة خنق النظام المالي للبلاد ودفعه إلى الانهيار؛ وهي خطة صُممت بتفاصيلها الدقيقة، وكان قد بدأ تطبيقها»، لكنه اعترف بأن الإجراءات التي التزمت بها حكومته بموجب الاتفاق ستدفع الاقتصاد إلى الركود «بشكل حتمي». ما يعني أن الأزمة بشقيها الاقتصادي المالي والاجتماعي سوف تزداد مع تنفيذ خطة التقشف الجديدة، التي ستؤدي إلى تحرير سوق العمل بحيث يتمكن أرباب العمل من تسريح موظفيهم وتشغيل أخريين من دون أي عقبات.

كما أن هذه الخطة التقشفية سوف تؤدي إلى تراجع معدلات النمو وفرص العمل في وقت تزداد فيها الضرائب غير المباشرة لتأمين الأموال لسداد فوائد الديون ما يجعل الدولة اليونانية بموظفيها وعمالها، تعمل عند الدائنين وتقوم بجباية الضرائب لمصلحتهم. الأمر الذي سيقود إلى مزيد من إفقار اليونان، دولة وشعبا، والتمهيد لثورة اجتماعية أكثر عنفا وجذرية مما أفرزته نتائج الانتخابات الأخيرة التي أتت بحزب سيريزا اليساري إلى السلطة.

ولهذا من المتوقع أن يواجه حزب سيريزا الحاكم الانقسام بعد هذا الاتفاق، فيما الشارع اليوناني الناقم على عدم احترام تسيبراس لقراره برفض حزمة التقشف الأوروبية سيتجه إلى التحرك تعبيرا عن غضبه ورفضه لشروط الدائنين الجديدة التي تحوله إلى عبد في بلاده على حد وصف إحدى اليونانيات التي قالت: لن نقبل أن نعيش عبيداً في بلادنا.

إن ما حصل كشف بما لا يقبل الشك بان الاتحاد الأوروبي الذي جرى توسعته ليضم دولاً من أوروبا الشرقية، على إثر تفكك الاتحاد السوفياتي، لا تحكم علاقاته مبادئ المساواة واحترام قواعد الديمقراطية، بل على العكس تماما فهو اتحاد يقوم على التمييز بين الدول الفقيرة والدول الغنية، والعلاقة بين هذه الدول تقوم على استغلال الدول القوية للدول الضعيفة وتحويلها إلى مجرد سوق لمنتجاتها واستثماراتها بغية جني الإرباح الطائلة وتأمين حياة الرفاهية لشعوبها على حساب الشعوب الأوروبية الأخرى.

وانكشاف طبيعة هذه العلاقة اليوم يقلل من حماس الدول الفقيرة وشعوبها بمواصلة التمسك في البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي، خصوصاً بعدما تبين أن الاتحاد لن يهب إلى مساعدتها عند وقوعها في أزمة، وإنما سيسعى إلى استغلال هذه الأزمة لتحقيق المكاسب لمصلحة الدول القوية، كما حصل ويحصل في التعامل مع أزمة اليونان.

ولهذا لم يعد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو البقاء فيه يشكل حافزا للدول الفقيرة فيه، أو لتلك التي ترزح تحت وطأة الأزمات، ولا يجب أن نستغرب إذا ما وجدنا في القادم من الأيام دولاً في الاتحاد تقرر عبر استفتاء شعبي الخروج من الاتحاد وتتجه نحو طلب الانضمام إلى منظمات دولية جديدة أكثر عدلاً في التعامل فيما بين أعضائها، مثل منظمة شنغهاي، ومجموعة، البريكس.