تتجلّى بزيارة وزير الخارجيّة الإيرانيّة الدكتور ​محمد جواد ظريف​ إلى لبنان معان جديدة تختلف عن معان سابقة لزيارات قام بها إلى لبنان أو قام بها مسؤلون آخرون. من التجليّات البارزة والساطعة، أنه يحمل إلى المسؤولين اللبنانيين اتفاقًا نحته بدقّة مع الدول الستّ، وهو بحدّ ذاته يشكّل مفصلاً بين حقبتين، حقبة الاحتراب العبثيّ، وأخرى تحاول الانتقال إلى تسوية جذريّة تطوّع في ثناياها الاحتراب كمادة تفاوضيّة، ولكنّها مادّة تقود إلى ترسيخ مفهوم التوازن بعد أن وقعت المنطقة ضحيّة الفوضى القاتلة.

زيارة أخرى قام بها وزير الخارجيّة السعوديّة ​عادل الجبير​ إلى موسكو، وتعتبر بحسب ما رشح من معلومات التوطئة الفعليّة لزيارة سيقوم بها الملك السعوديّ سلمان بن عبد العزيز وفيها سيقابل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. قرأ الجبير أمام مضيفه وزير الخارجيّة الروسيّة سيرغي لافروف عبارات تغرغرت بها الدبلوماسيّة السعوديّة غير مرّة، حول رفض السعوديين بقاء الرئيس السوريّ بشّار الأسد، والقبول بالحلّ السياسيّ يتمّ من دونه مع مفارقة أوضحها بأنّ الجيش السوريّ يجب أن يؤهل لقتال "داعش".

وفي تقييم عام لشخصيّة عارفة عن زيارة الجبير لموسكو، تبيّن بأنّ كلام الجبير ليس تجذيريًّا ولا يعبّر تاليًا على واقع التواصل بين دمشق والرياض بفعل اللقاء بين اللواء علي المملوك والأمير عبد الله بن نايف. وعلى الرغم من أنّ أجواء اللقاء وإن بدت إيجابيّة من حيث الشكل إلاّ أنّه لم يخلص إلى نتائج حاسمة، بل ظلّ الخلاف قائمًا. لكن بمجرّد أن يزور المملوك الرياض فإنّ المطالبة التي ظهرت في كلام الجبير قد جوفت سلفًا من حيث الشكل كما من حيث المضمون، وبات لزامًا التوضيح بأنّ عادل الجبير في حقيقة الأمر لم يمسك ناصيّة الدبلوماسيّة السعوديّة كما أمسكها قبله سعود الفيصل، وقد باتت عباراته في ذلك المؤتمر غير مسبوكة بل مبعثرة، وبخاصّة أنّه لم يوضح كيف يمكن تأهيل الجيش السوريّ بمنأى عن رئيس يواليه حتى الموت. وتعتقد بعض الأوساط المتابعة، بأن زيارة العاهل السعوديّ برفقة وفد رفيع المستوى، ستعيد أمام بوتين صياغة النص بمضمون سياسيّ مرن يركّز في قتال تنظيم داعش وحلّ سياسيّ في سوريا من دون التعرّض لشخص الرئيس، والقيادة باتت تدرك بأنّ الحل لن يتم بلا وجود الأسد، كما تم الاعتراف باليمن بالدور الحوثيّ من قبل السعوديين.

ورشة الحوارات المتلاحقة بتواتر بين موسكو وطهران والرياض ومسقط ودمشق وبيروت واسطنبول، باتت واضحة المعالم بالأهداف المرسومة لها، أساسها القضاء على تنظيم داعش. غير أن الورشة الممدودة نحو تلك العواصم المذكورة ليست معصومة عن الواقع الميدانيّ السوريّ في توقه إلى الحسم. وفي هذا السياق يعتقد السفير السوريّ في لبنان علي عبد الكريم علي خلال قراءة سياسيّة أجراها مع صديق له، بأنّ الحراك سيشتد كثيرًا، وهو يشبه مرحلة المخاض قبل حدوث الولادة. وقد أيقنت الدول المعنيّة في الحرب السوريّة، بأنّ الحل السياسيّ بكلّ معاييره، لن يتمّ على الإطلاق إلاّ بوحود الرئيس الأسد على رأس السلطة. وقد أشاد بقدرة وزير الخارجيّة الروسيّة سيرغي لافروف السياسيّة والشخصيّة والدبلوماسيّة على إدارة الحوار بين المتناقضات برعاية الرئيس الروسيّ. وعلى الرغم من اشتداد الحراك بآفاقه الدبلوماسيّة المتلازمة مع الحراك الميدانيّ، غير أنّ بعض الأوساط الدبلوماسيّة تخشى من عدم القدرة على بناء ذلك الحلف المقترح في المدى المنظور والقريب، قبل حسم الخلاف الروسيّ-الأميركيّ حول المعايير والمقادير المفترض أن تتبع في سلوكيات الحرب على الإرهاب. لقد أعرب لافروف عن ذلك الخلاف، من دون الكشف عن عناوينه مما غلّف الحراك ببعض الضبابيّة الواضحة، وربّما استند عادل الجبير على تلك الضبابية في قوله بأنّ الحلّ السياسيّ في سوريا يجب أن يحدث من دون الأسد.

وفي ظنّ الكثيرين، بان ورقة الإسلام التكفيريّ لا تزال راسخة على طاولة التفاوض كمادة ابتزاز ومساومة. وفي الأساس تلك ورقة أميركيّة زرعت بين العراق وسوريا لتحدث ذلك الانقلاب على النظام في دمشق، وقد فضح ذلك السعي المدير السابق لمديريّة الاستخبارات العسكريّة مايكل فلين، في حديث له على قناة الجزيرة، بكشفه وثيقة سريّة صادرة عن ما يعرف بال DIA تعلن أن قرار إنشاء تنظيم داعش ودعمه كان متعمّدًا وقد كان مطلوبًا تعزيزه في شرق سوريا. ويبدو بحسب القراءة الروسيّة بأن هذا التنظيم لا يزال مطلوبًا في الرؤية الأميركية من ضمن مسرى التفاوض، وهذا الأمر بحدّ ذاته مرفوض وممجوج لأنه سيعرّض الاتفاق الإيرانيّ-الدوليّ لخضّات قد تكون محتملة من حيث التنفيذ والتجسيد السياسيّ على الأرض.

وبالعودة إلى زيارة محمد جواد ظريف إلى لبنان، فإن إطارها غير منغمس في التفاصيل اللبنانيّة كما ذهبت بعض المخيّلات اللبنانيّة في التحليل والاستنتاج وبخاصّة في مسألة الانتخابات. وهي تأتي في إطار زيارة على عدد من العواصم العربيّة لشرح واقع الاتفاق مع الأميركيين وتسويقه. لكنّ جوّ الاتفاق بمعانيه ومحتوياته مادة للاستقراء ليس بالمخيّلة اللبنانيّة الفوضويّة، ولكن بالعقل اللبنانيّ الرصين الذي يعتمد على القياس المنطقيّ في استنباط الرؤى وتحليلها وإسقاطها في ترتيب شؤون البيت اللبنانيّ. لن يقول ظريف من يريد رئيسًا للجمهورية اللبنانيّة، ولن يتوغّل بعناويننا. هو آت لشرح المناخ وعلى اللبنانيين أن يتلقفوه ويبنوا عليه المقتضى.

ما هو الجوّ العام وما هو المقتضى؟

الجوّ العام، في حقيقته، غير محصور في المدى اللبنانيّ. ما لفت في زيارة ظريف للبنان، وبعد زيارته لرئيس الحكومة تمّام سلام، تثمينه الدور الذي قام به الأخير في مكافحة الإرهاب والتطرّف "والذي ادّى إلى المزيد من الهدوء والاستقرار". وينطلق كلامه من خلفيّة اتفاق واضح بين إيران وعواصم دول القرار في لبنان، بعدم التفريط بالحكومة، أي بعدم جرّها نحو الاستقالة في ظلّ فراغ عبثيّ وقاتل.

وعلى الرغم من ذلك وفي إطار بنيويّ خاصّ بالنظام السياسيّ اللبنانيّ، فقد بات يحتاج وبحسب قراءة دبلوماسيّة يجريها بعض الدبلوماسيين الأجانب لإعادة تقويم بعد تقييم وتشخيص يسير له، فهو نظام مشلول في ظلّ ثقافة التمديد المتماهية مع الفراغ على مستوى الرئاسة، وفي ظلّ فقدان المؤسسة التشريعيّة لشرعيّتها. ومتى فقدت الشرعية بمعناها الحصريّ Légétime تتجوّف المؤسسة من المحتوى القانونيّ الدقيق Légalité، وتتعرّى من الجوهر الميثاقيّ الخاصّ بلبنان، وهذا عينًا مكمن الخطورة المضاف إلى الفراغ. حينئذ سيحتاج لبنان كما في سنة 1989 إلى مؤتمر تأسيسيّ جديد.