هل الحوار المزمَع إجراؤه هذا اليوم مضيعة للوقت، أي للترف، مع معرفة المتحاورين الدقيقة بأنّ ساعة الحقيقة قد دنت بشقّها الشعبيّ، والمستهلك بعضه بسياقات سياسية دوليّة وعربيّة متنوّعة ومتواجهة من أجل كسب الوقت والأرض، أو أنّه بات المنطلق للتأسيس لتسوية جديدة تطلّ على آفاق الواقع الجديد المرسوم في المنطقة، وهو واقع متحرّك في هذا الإقليم باتجاه صهره في خطوط جديدة إنطلاقًا من سوريا بالذات؟

المهمّ في كلّ ذلك تنامي ذلك الإحساس المتيامن ما بين ​الحراك المدني​ّ الشعبيّ والتحليل السياسيّ والاقتصاديّ الكامن عند مجمل السياسيين اللبنانيين، بأنّ هذا النظام لم يعد حيًّا بسلوكياته الحالية وممارساته المؤسساتيّة، لم يعد حيًّا في الجذر بسبب أنّ ثمّة طوائف تسود وأخرى تُساد، ممّا يستوجب قراءته بصورة أخرى غير رتيبة. ولا يقف الإحساس المشترك عند تلك الحدود بمحدوديّةٍ جوفاء وفارغة، أي أنّ من يقرأ أحوال لبنان في معظم المقاربات وفي تراكم الحراك من هنا وهناك، يكتشف توًّا بأنّ سقوط النظام السياسيّ قد طغى ولا يزال يطغى على عقول الناس مع تدحرج السلطة إلى الهاوية. لا تتكوّن السلطة إلاّ من نظامٍ ناظم، وإيقاعٍ ضابط، أي من دستورٍ ينشأ من عقدٍ اجتماعيّ وسياسيّ جديد، وقانونٍ يحكم ما بين المتخاصمين، هذا إذا شاء السياسيون اللبنانيون الخروج باتفاق جذوريّ وتكوينيّ جديد، وليس باتفاق تسوويّ عابر كما حصل في اتفاق الطائف.

ما يحيي النظام السياسيّ في جوهره وكيانيّته ويجعلها متطوّرة ومحدثة، والذي فيه تتمّ محاكاة الناس جميعًا، قانون للانتخابات عصريّ قائم على النسبيّة كما أجمعت النخبة السياسيّة والدستوريّة، ويطلّ على لبنان كلّه كدائرة واحدة، وهو الطموح الأقصى وليس المثاليّ بل الواقعيّ بتجليّاته. حين دعا مشروع "​اللقاء الأرثوذكسي​ّ" إلى أن تنتخب كلّ طائفة ممثليها، رنا بدعوته نحو كسر كل استيلاد مقيت من طائفة غالبة لطائفة مغلوبة، وقد عبّر عن ذلك في ذروة قراءته لهذا الواقع الأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصرالله برفضه مقولة الطائفة القائدة أو الآحاديّة الطائفيّة المهيمنة. هذا المشروع بحدّ ذاته طريق نحو الانصهار المتوازن والرصين، المنطلق من تأليف حسن واع وحكيم بين مفهومين قد يكونان متناقضين لفظًا ولكنهما قابلان للتلاقي، وهما الاستقلال والاستدلال. فإذا تم اعتماد، على سبيل المثال لا الحصر، مشروع اللقاء الأرثوذكسيّ بأسبابه الموجبة، فإنّ القارئ لمحتواه يدرك للتوّ بأنّ الطائفة التي تنتخب ممثلّيها ليست مستقلّة بالمطلق عن الطوائف الأخرى، ولا تعصم نفسها عنهم. ذلك أنّ الممثلين المنتخبين سيلتقون في رحاب المجلس في إطار عمل تشريعيّ يعيد للمجلس بهاءه المفقود، وهذا هو معنى الاستدلال باللقاء الوطنيّ داخل المجلس.

المؤسف في حقيقة الأمر بأنّ الحوار لن يقارب تلك العناوين بهذه الرؤى، بل ستتم مقاربتها من الزوايا الضيقة بانتظار ما سيُملى بفعل الحراك الدوليّ والإقليميّ في المنطقة. لن يكون الحوار مستقلاً عن الأحداث الدامية والعاصفة الهوجاء في الإقليم المتوتّر، فالأحداث اللبنانية الحالية ارتبطت بالتأثير والتأثّر منذ اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري بها. والمتحاورون يعرفون أيضًا بأنّ الحل مرتبط بالتسوية في سوريا على وجه التحديد أكثر من ارتباطه بأحداث اليمن. وعلى هذا الأساس إنّ الحوار لن يفتح أبواب الحلول الجذريّة إلاّ إذا اتفق السياسيون على المطلبين الجوهريين، وهما جوهر الأزمة اللبنانيّة: انتخاب رئيس الجمهوريّة من الشعب مباشرة وقانون انتخابات يؤمّن المناصفة الفعليّة. ومن المفيد التذكير كمعطى أساسيّ بأن جوهر النظام السياسيّ في لبنان حصرًا، وفي مجتمع مركّب طوائفيًّا ومذهبيًّا، هو قانون انتخابات، هو الهيكل العظميّ للنظام، ومن دونه ليس من نظام. المأساة أن لبنان يعيش في اللانظام بل في الفوضى لأنه افتقر بجوهره إلى تلك النوعيّة بقانون يؤمّن ديمومته بجوهره الميثاقيّ، وهو معنى وجود لبنان، ولا معنى للبنان بلا جوهره الميثاقيّ. وما صرخة المسيحيين المعبّرة عن وجع وجرح بليغين سوى لأنّ لبنان بات خاليًا من هذا الجوهر باستهلاك المسلمين للمكوّن المسيحيّ، وبعضهم اعتبر الطائف أنّه وجد له.

لكنّ المسألة لا تتوقفّ في مدى الرؤى السياسيّة. اللغم الكبير الذي انفجر اجتماعيًّا كإيذان بالانقلاب الشعبيّ منذ 23 آب إلى 29 آب، لغم ​النفايات​، زد على ذلك مسائل الفساد وانقطاع الكهرباء والمياه عن المواطنين. لقد انفجر اللغم وأحدث الفجوات الجلّى والتصدعات الهائلة في معظم الطبقة السياسيّة، وخرج الناس عن ثقافة الزبائنيّة. ​طاولة الحوار​ التي دعا إليها رئيس المجلس النيابيّ نبيه بري أمام هذا الاستحقاق الخطير في الشكل والمضمون، والسلطة السياسيّة سقطت لكونها لم تقرأ تلك العناوين كمقدمات جزئيّة تتكتّل وتتشكّل بعناصرها لتنفجر تباعًا. الخطورة أن ينسى المتحاورون أن عدم معالجة تلك الملفّات سيتيح المجال لتدحرج واسع متصل بأرومته بأزمة المنطقة. وفي المحصّلة لا معنى للحوار إن لم يكن منتجًا، لن تكون طاولة الحوار محصّنة أمام هذا الهدير البركانيّ في الداخل والخارج. والمطلوب واحد، إيجاد حل جذريّ لأزمة النفايات، وانتظار واقع الأرض في سوريا، ليبنى على الشيء المقتضى. وفي النهاية التسوية الداخلية الجذورية لن ترسو قبل الحسم في الجوار.