ليست الاحوال العربية، في الظروف الراهنة، بأفضل منها في أيِّ زمنٍ مرَّ على هذه الأمّة، ذلك ان الصعاب تتوالى، والنكسات تتناسل، والإحباطات تتكاثر، والمثقفون العرب غائبون ومستقيلون من دورهم، أو خائفون من خيالهم على المرآة...

ان الحالة العربية الراهنة، تستدعي الكثير من اليقظة والتنبّه الى ما يُحاكُ لشعوبنا من حروب و فِتَنٍ، ومن قَتْلٍ لإرادة الحياة، وإغتيال للفكر الثقافي الذي صار أصحابه رهائن في مناطق إحتلال التكفيريّين، وإرهابيّي العقائد السوداء، وهذا ما يطرح إشكاليّة دور المثقف العربي في هذا الزمن المشحون بجرائم القتل والسحل والتفجير والتهجير والتدمير المنهجي لكلّ المعالم الحضارية والتاريخة!

لعل من اكثر الامور حضوراً في الواقع العربي المأزوم، في هذه الظروف الاستثنائية التي يعيشها عالمنا العربي اليوم، هو مأزقيّة المثَقّف الذي غاب عن الساحة العربية المتفجّرة، منذ إطلاق شرارة الأحداث في البلدان العربية، وهذا مؤشّرٌ على حالة التردّي والانحدار التي وصلت اليها مجتمعاتنا الفكرية، بكلِّ إتجاهاتها وانتماءاتها وأهوائها، السياسية والعقيدية والغرائزية...

لقد كان لافتاً جداً أن يغيب المثقفون العرب، وان تختفي ادوارهم عن الساحة، في زمن الأزمات المتناسلة والتي تتكاثر بشكلٍ مضطرد، ومن دون أُفُقٍ لركود الوضع المتفجّر والذي بدأت تداعياته تتخطى الساحات العربية، الى مساحات عالمية أخرى.

فهل يتحمّل المفكرون والمثقفون العرب، مسؤوليةً، وَلَوْ شكلية، عن تنامي الأزمة العربية؟

وهل يعي الشباب العربي، ان الشعارات المطلبية التي صدحوا بها في الساحات ومن على المنابر، كانت شعاراتٍ لفظية جوفاء، ومفخّخة، وتحمل بطيّاتها مؤامراتٍ مُتْقَنةَ الإخراج، بهدف قذف المجتمعات العربية الى الهاوية القاتلة؟

ان مراجعة بسيطة لبانوراما الأحداث التي لا تزال تعصف ببعض البلدان العربية، تشير الى ان منسوب اهتمام الطبقة المثقفة بالاحداث الاليمة والمفجعة، لم يكن على المقدار المطلوب، والمستوى الذي يجب ان ان يكون، خصوصاً وان حالات الاعتراض على الأوضاع الاجتماعية والسياسية، لم ترقَ الى مطلبيّاتٍ صلبة، يُبنى عليها, بمعنى ان الاعتراض الثقافي ترك مطرحه للحركات الغوغائية، التي تمّ إستثمارها لتقويض أركان مجتمعاتنا العربية، التي كانت تعيش حالات من الهدوء والاستقرار، إن لَمْ نَقُلْ الرخاء الجزئي... وليس في ذلك أيُّ محاباة أو مبالغة، سيّما وان تدهور الاحوال بهذه الطريقة المأسوية، ترك الكثير من الانطباعات السيئة في وجدان الناقد العربي، الذي راح يُطلقُ أحكاماً مُبرَمة وغير مرتدّة، تدينُ بشدّة إستقالة المثقف العربي من دوره، وهروبه من واجباته، وتعتبره (مارقاً) من المواطنة، وخائفاً أو خَجِلاً من عروبته!

هذه الانطباعات المؤذية شعورياً وقومياً، تجعلنا في حالة دائمة من التساؤل عن أسباب غياب هذا المثقف، كتابةً وتفكيراً وقولاً وحراكاً، عمّا يحدث في منطقتنا التي أضحتْ مخطوفةً ورهينةً للمؤامرات والمخططات السوداء التي رسمتها دوائر القرار الخارجي لمجتمعاتنا، والتي في أُولى إستهدافاتها، ضربُ التعايش، وتقويض فرص التلاقي بين مكوّنات المجتمعات ذات التعدديات الحضارية والدينية والثقافية.

فهَلْ إن الهدف الرئيس من التدمير العربي للعرب، بمال عربي وذهنيات صحراوية بدوية جاهلية، هو تشويه صورة الانسان العربي، والطعن بمعتقداته وسلوكياته؟

والى اي مدى يمكن لمهندسي المؤامرة أن يتمادوا في غيِّهم والإمعان بقتل شعوبنا وتهديم حضارتنا ومحو ثقافتنا؟

واذا كانت بعض مركزيات السلطات العربية، تهدف الى تغيير أنظمة دول عربية أخرى، لأهداف متداخلة؛ فلقد بات من حقّنا بل من واجبنا ان نسأل، من حيثُ أننا ضحايا، عن دورنا في إنتاج ممانعة ثقافية تعترض بقوة على الحالة المُذرية التي نعيشها، ونتعايش معها على وقعِ التخاذل وقبول الأمر الواقع. وهذا من أبسط الأدوار الوطنية المنوطة بالمثقف العربي، الذي أغلق عينيه عن المجازر التي تُنَفّذُ بحقِّ شعبه، وأطبقَ فَمَه على كلمة الحقّ التي مفروض ان يقولها جَهْرًا...

لقد كشف الاعلام الثقافي العربي ضموراً وقصوراً واضحين في عملية تظهير دور المثقفين العرب وغيابهم عن ساحة الواقع المأزوم، بدليل ان الصفحات الثقافية وصفحات القضايا والرأي، في الدوريات العربية، خلَتْ تماماً من الكتابات الفكرية والنقدية التي تحمل وجهات نظر محوريّة وذات ثقلٍ معرفيٍ، وتتعرّض للاوضاع الضاربة في احوال شعوبنا ومنطقتنا.

والسؤال الأهمّ في هذا الإطار، هو؛ هل هي مسؤولية الاعلام، أم انها مسؤولية المثقف نفسه، في عملية الغياب والتغييب عن القيام بدورٍ فاعل وتغييريّ في مجال التفاعل المطلوب وجوده بين المثقف وقضايا الوطن؟!

والى حين ان يستعيد المثقف دوره الطليعي بالتصدّي للمؤامرات التي تستهدف حضوره، يبقى السؤال المركزي عن الجدوى المنتظرة من (الاعلام اللّاحرّ)، في الإسهام بصناعة، او بإعادة انتاج الحرية في مجتمع دائم التشظّي...