خلال السنوات الماضية، ثابتتان أساسيتان طبعتا "نضال" قوى الرابع عشر من آذار في لبنان، هما "السيادة" و"النأي بالنفس".

تعود الأولى إلى "نشأة" هذه القوى، بعيد اغتيال رئيس الحكومة السابق ​رفيق الحريري​، فهي، معطوفة على الحرية والاستقلال، شكّلت عصبها الأساسي، فيما تُعتبَر الثانية "ابتكارًا" توصّلت إليه، بعد انخراط "حزب الله" في ​الأحداث السورية​، لتقول أنّ لبنان يجب أن يكون "محيّدًا" من صراعات المنطقة، خصوصًا أنّ لا ناقة له ولا جمل فيها.

بالأمس، رمت هذه القوى هاتين الثابتتين وما شابههما بعرض الحائط. سارعت بعض مكوّناتها لـ"مباركة" تحالفٍ سُمّي "إسلاميًا" لمحاربة الإرهاب، وبقيادةٍ سعودية، بل ذهبت لحدّ "الترحيب" بانضمام لبنان "دون علمه" إليه، لتبقى "المفارقة" أنّ من لم "يبارك"، حصر "تحفّظه" بسمة التحالف "الإسلامية" لا أكثر ولا أقلّ!

دولة مستقلة!

قد يقول قائل أنّ "البلبلة" التي أحدثها ضمّ لبنان في عتمة الليل إلى تحالفٍ، بغضّ النظر عن ماهية هذا التحالف ومهامه وعناوينه، غير مبرّرة، باعتبار أنّ ما حصل هو نتيجة طبيعية لحالة الاهتراء التي أصابت بلدًا لم يعد فقط "بلا رأس"، بل بمؤسساتٍ معطّلة وعاجزة، لا هيبة له ولا من يحزنون.

وإذا كانت كلّ مظاهر الضعف والشلل نتيجة طبيعية هي الأخرى لتحكّم طبقةٍ فاسدةٍ بالبلد برمّته، ما جعلها توصله إلى الدرك الذي وصل إليه، فإنّ كلّ ذلك لا يبرّر، بحسب المتابعين، تجاوز الآليات الدستورية والقانونية لضمّ لبنان إلى تحالفٍ بهذا الحجم والغموض، بناءً على ما قيل أنّها "موافقة أولية"، فيما وصّفها رئيس الحكومة ​تمام سلام​ بأنّها "استمزاج رأي" لا أكثر ولا أقلّ. أما المُستهجَن، وفق هؤلاء، فهو سكوت "مدّعي السيادة" على هذا "الانتهاك"، كما لو أنّ لبنان دولة ملحقة أو تابعة للمملكة العربية السعودية، أو تعيش في أفضل الأحوال تحت "الوصاية السعودية"، لا كما لو كان دولة مستقلّة يفاخر سياسيّوها بأنّهم حاربوا ويحاربون كلّ مستعمرٍ أو محتلّ، أياً كان.

وأبعد من ذلك، لم تبدُ "توضيحات" رئيس الحكومة "مطمئنة" للكثيرين، فحديث الرجل عن "استمزاج رأي" لا يسمن ولا يغني من جوع، وحديث مستشاريه عن أنّ الموافقة تبقى "مبدئية" و"مرهونة" بموقف مجلس الوزراء مجتمعًا، وهو العاجز أصلاً عن الاجتماع، لا قيمة لها، طالما أنّ لبنان وُضِع في مصاف الدول المُشاركة بشكلٍ نهائي في التحالف، وليس حتى بين الدول التي لم تحدّد موقفها النهائي بعد.

"14 آذار" منقسمة...

عمومًا، وأبعد من الشكل، اللافت أنّ قوى الرابع عشر من آذار لم تتعاطَ مع القضية بروحيّة "رجل واحد"، وإن كان لافتاً أنّ أياً من مكوّناتها لم يعارض بشراسة، حيث بدت "تحفّظات" حزب "الكتائب" الشكليّة "رفع عتبٍ" لا أكثر ولا أقلّ، لدرجةٍ أوحى معها الوزير سجعان قزّي أنّ مشكلته الوحيدة مع التحالف أنّه مصنّفٌ كتحالف "إسلاميّ" لا أكثر ولا أقلّ، ما يعني أنّ لبنان لا يمكن أن يكون جزءًا منه، باعتبار أنّه ليس دولة إسلامية ولا مسيحية، علمًا أنّ هذا الأمر ليس "قاعدة"، باعتبار أنّ هناك "سوابق" في هذا المجال، منها أنّ لبنان دولة عضو في منظمة المؤتمر الاسلامي، كما أنّ الرئيس اللبناني هو الرئيس المسيحي الوحيد الذي يحضر مؤتمر الدول الاسلامية.

وفي مقابل التحفّظ "الكتائبي"، لاذ حزب "​القوات اللبنانية​" بالصمت المُطبَق، وغاب رئيسه ​سمير جعجع​ "عن السمع"، لا مباركةً ولا اعتراضًا، وهو الذي لم "يستفق" بعد من "صدمة" ترشيح "حليفه" رئيس "تيار المستقبل" ​سعد الحريري​ لـ"خصمه اللدود" رئيس "تيار المردة" ​سليمان فرنجية​ لرئاسة الجمهورية، وبضوءٍ أخضر سعودي كما يُقال، علمًا أنّ الأمر ترك تداعياتٍ واضحة حتى على علاقته بالمملكة، وما "التسريبات" الصادرة عن محيطه في الآونة الأخيرة سوى خير دليلٍ على ذلك، بما فيها تلك التي تحدّثت عن نيّته ترشيح رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون للرئاسة، وهو المرشح الذي يتحدّث كلّ المتابعين عن "فيتو" سعودي بالتحديد على ترشيحه.

أما "تيار المستقبل"، فتصرّف كـ"أمّ الصبي". بعيدًا عن قصّة "السيادة"، وبعيدًا عن توصيفها من قبل الحريري كـ"خطوة تاريخية" شأنها شأن كلّ خطوات المملكة، حذف تلقائيًا كلّ ما كان يقوله عن "النأي بالنفس"، باعتبار أنّ لبنان لا يجب أن يُقحِم نفسه بصراعات الآخرين، وأنّ لا مصلحة له في الدخول في هذا المحور أو ذاك. بات بالنسبة إليه أمرًا طبيعيًا أن يكون جزءًا من هذا التحالف، ولو بدا محصورًا بمحورٍ دون غيره، بدليل استثناء دولٍ يفترض أن تكون الأساس في "محاربة الإرهاب" على غرار سوريا والعراق وروسيا و​إيران​.

... و"8 آذار" مستنفرة!

أما على ضفة قوى الثامن من آذار، فكانت "الريبة" سيدة الموقف، من التحالف بحدّ ذاته بالدرجة الأولى، ومن الموقف اللبناني منه بالدرجة الثانية، وسط عشرات علامات الاستفهام التي فرضت نفسها، من دون أن تلقى أجوبة حاسمة حتى الساعة.

فبالنسبة للتحالف أولاً، ما استوقف أركان هذا الفريق كان أنّه التحالف الثاني الذي تنشئه المملكة العربية السعودية في أقلّ من عامٍ واحدٍ، بعد ذلك الذي سُمّي بـ"​عاصفة الحزم​"، الأمر الذي رُبِط به سريعًا، خصوصًا أنّ كثيرين لم يقرأوا في الإعلان السعوديّ المستجدّ سوى محاولة للتغطية على "الهزيمة" التي منيت بها السعودية في اليمن، بنتيجة "التخبّط" الذي وقعت فيها وجعلها "تستجدي" وقفاً متأخّراً لإطلاق النار.

وأبعد من هذا الربط، وإذا كان عنوان ​مكافحة الإرهاب​ جذاباً ولا يختلف عليه اثنان، فإنّ الأكيد أنّ المضمون لا يمكن أن يكون بذات الجاذبية، باعتبار أنّ "الشيطان يكمن التفاصيل". هنا، طُرحت أسئلة كثيرة من قبيل، أيّ إرهابٍ هو هذا الذي تريد السعودية محاربته، وبموافقةٍ لبنانية رسمية مزوّرة؟ هل هو ذاك الذي تصنّفه هي بأنّه إرهاب وفق منظورها الأحادي، أم هو ذاك الذي تُتّهَم السعودية أصلاً بتمويله ورعايته ودعمه؟ ثمّ من يضمن عدم مشاركة تلك التنظيمات والفصائل التكفيرية والإرهابية، التي تصرّ السعودية على تبييض صفحتها، وقد احتضنت بعضها تحت مسمّى "معارضة سورية" في ​مؤتمر الرياض​ الأخير؟ وهل يقبل لبنان أن يشارك هذه القوى في تحالفٍ واحدٍ؟

ماذا لو؟

على الصعيد اللبناني، لا ترى قوى الثامن من آذار في مواقف "الأخصام" من التحالف، ولا سيما "تيار المستقبل"، ما يدعو للعجب، باعتبار أنّ التيار هو "الابن المدلّل" للسعودية في لبنان كما يعرف القاصي والداني، ولكنّ تطوّع التيّار لـ"مباركة" ضمّ لبنان إلى التحالف قسرًا دون اتباع الآليات الدستورية والقانونية هو ما يثير الدهشة.

والسؤال المطروح هنا: ماذا لو كانت إيران هي التي تؤسّس مثل هذا التحالف؟ هل كان ليقبل بتمرير موافقة، ولو مبدئية، قبل "استمزاج رأي" مجلس الوزراء؟ وماذا لو أعطى رئيس المجلس النيابي مثلاً موافقة "مبدئية" على الهبة الإيرانية للجيش اللبناني، وهي التي يفترض أن تكون محلّ إجماع بين اللبنانيين، من دون العودة لمجلس الوزراء؟ هل كان لـ"يصفّق" المستقبليّون كما يفعلون اليوم؟!