يقفل العام 2015 على حماوة عسكرية وأمنيّة، ولكن الأهمّ على مشاريع وتسويات سياسية تُرسم في الكواليس الديبلوماسية وغرف القرار الدولية. وخلال هذا العام جَرت أحداث كثيرة، لكنّ ثلاثة منها شكلت منعطفاً أساسياً ودافعاً كبيراً للذهاب الى مشاريع التسويات.الحدث الاول هو إنجاز الاتفاق النووي الاميركي - الايراني ودخول الشرق الاوسط برمّته في مسار جديد ومعادلة مختلفة تؤكد أنّ ايران جزء من الحل بعدما كانت طوال العقود الماضية جزءاً من المشكلة.

الحدث الثاني يتعلق باندلاع الحرب في اليمن على نطاق واسع ودخول السعودية وحلفائها طرفاً رئيساً في الحرب، في مقابل تمدّد الحوثيين الى الداخل السعودي.

أما الحدث الثالث فيتمثّل بدخول روسيا العسكري للمرة الأولى في تاريخها في الشرق الاوسط طرفاً مباشراً في الحرب السورية، وبالتالي إمساكها بالحركة الميدانية ومن خلالها بزمام المبادرة السياسية.

وفي واشنطن حيث الرقابة لصيقة للتطورات الحاصلة، انهمكت الدوائر المختصة برسم الخطوط العريضة للملامح المستقبلية لخريطة الشرق الاوسط. صحيح أنّ هذه الدوائر عملت على التأثير في مجرى المعارك الدائرة بما يتلاءم ومصالحها المرسومة، لكنّ الصحيح أكثر هو وضع المشاريع السياسية انطلاقاً من زاويتين أساسيتين:

الاولى صورة الانظمة السياسية للدول التي شلّعتها النزاعات الدموية وعلى أساس نظرية «الاخوة- الاعداء» داخل كل دولة. أي توزيع السلطات بين القوى المتحاربة والمتناقضة انطلاقاً من المستجدات مع ايران.

والثانية ترتيب المسرح جيداً بحيث يؤدي «تعب» الفرقاء والاطراف المتحاربة للانخراط في تسوية تاريخية مع اسرائيل، خصوصاً أنّ رئيس السلطة الفلسطينية يقف في قاعة الانتظار منذ سنوات طويلة. وبعبارة أوضح، فإنّ كل هذه الاحداث الهائلة الدائرة إنّما تُحرّكها وتشرف عليها أوركسترا واحدة.

وقد يكون آرون دافيد ميللر قد اختصر «عجقة» المؤتمرات حول سوريا حين قال في الـ»فورين بوليسي» إنّ الرئيس بشار الاسد لم يعد العقدة في سوريا بالنسبة الى الحل بل هو عامل مسهّل لولادته.

وما لم يقله ميللر أورده المحلل في صحيفة «هآرتس» الاسرائيلية آري شافيت، ولَو من زاوية اخرى، فاعتبر أنّ الحراك العام في الشرق الاوسط من اليمن الى سوريا مروراً بالعراق ووصولاً الى لبنان يأتي ضمن مفهوم جديد لأمن اسرائيل للعقدين المقبلين، ومُدرجاً النقاط الآتية:

1 - عدم جدوى الاستمرار في سياسة الاستيطان مع ظهور بداية عداء غربي لإسرائيل بسببه.

2 - اللوبي اليهودي داخل الولايات المتحدة الاميركية لم يعد يتحمّل سياسة نتنياهو واليمين عموماً الرافضة لمشاريع التسوية مع الفلسطينيين.

3 - الإرتكاز على سياسة جديدة تقضي بالتوجه الى دول الجوار وخصوصاً تركيا والسعودية ومصر.

4 - مساعدة مصر لاستعادة دور فاعل في المنطقة بالتنسيق مع واشنطن وتل أبيب.

وبَدا واضحاً في الفترة الاخيرة اندفاع الرئيس المصري الى لعب دور إقليمي أقوى وتفعيل سياسته الخارجية على رغم المشاكل الامنية الصعبة التي تعصف بالاستقرار الداخلي لمصر.

وستشكل القاهرة رأس حربة في مشروع التسوية السورية بعدما نجحت في عدم الغرق في الحرب اليمنية. وستنطلق القاهرة من مبدأ عدائها المشترك مع النظام السوري للحركات الاسلامية المتطرفة وتشكّل مساحة التقاء بين النظام والسعودية، خصوصاً أنها ستتولى مسؤولية كبيرة في إطار قوات الردع الاسلامية التي ستُمسك بزمام الامر في المناطق التي ستنتزع من «داعش».

ولكن قبل كل ذلك تبدو العواصم الغربية مقتنعة بإنجاز تسوية في لبنان تسمح بفصل ساحته عن الساحة السورية.

وفيما بَدت العواصم الغربية مصدومة بالضربة التي تلقّتها تسوية فرنجية - الحريري، تبرّعت الديبلوماسية الروسية بتفسير حقيقة اعتراض «حزب الله».

وتروي مصادر ديبلوماسية مطلعة أنّ موسكو المهتمة كثيراً بإنجاز التسوية في لبنان كونها مهتمة بالتفاصيل، ولبنان يعتبر تفصيلاً قياساً الى ملفات المنطقة، اضافة الى دورها كحامية للاقليات وفي طليعتها الاقلية المسيحية، أبلغت واشنطن أنّ اختصار قرار «حزب الله» بإيران كان خطأ فرنسياً وسعودياً كبيراً.

ذلك أنّ طهران تركت جدياً لـ«حزب الله» حرية القرار على الساحة اللبنانية ومنحت قيادته هامشاً واسعاً وأكثر ممّا يتصوره البعض في سوريا. وبالتالي، فإنّ الاعتقاد بأنّ قرار الحزب هو في طهران إنما يعتبر خطأ حسابياً فادحاً.

وأضافت الديبلوماسية الروسية لنظيرتها الاميركية أنّ «حزب الله»، الذي يحسب بدقة متناهية وبحذر كبير وبارتياب واضح جرّاء الصراع المذهبي العنيف في المنطقة، ليس مستعداً لخسارة امتداده المسيحي في لبنان والذي يؤمّنه بشكل كامل العماد ميشال عون، إضافة الى أنّ التجارب السابقة، خصوصاً خلال عهد الرئيس ميشال سليمان، دفعت بقيادة الحزب للبحث عن ضمانات جدية لمستقبله في اطار السلطة اللبنانية، خصوصاً أنّ مشاريع التسوية مع اسرائيل ستكون عنوان المرحلة المقبلة.

وعملاً بالنصيحة الروسية، بدأت الدوائر الاميركية المختصة تدرس السبيل «الآمن» للتواصل مع «حزب الله» وإجراء مفاوضات معه.

صحيح أنّ هذه الفكرة كانت أساساً تراود دوائر القرار الاميركي خصوصاً مع نجاح «حزب الله» في ضبط ساحة الجنوب والالتزام الصارم بالقرارات الدولية، والأهمّ خبرته وقدرته في مواجهة المجموعات الارهابية، لكنها كانت تفضّل التريّث في انتظار تثبيت العلاقة الجديدة مع طهران.

كانت الكواليس الديبلوماسية تُردّد بصوت خافت، خصوصاً في مرحلة ما بعد خروج الجيش السوري من لبنان، أنّ واشنطن ستصارع «حزب الله»، ولو أنها تُدرك سلفاً أنها ستجلس معه على طاولة التفاوض في نهاية الأمر. وتبدو اللحظة وكأنها قد حانت الآن، وأنّ الضغط المصرفي هو مقدمة ضرورية لذلك وليس لتدشين مرحلة جديدة من الصراع.

فواشنطن تُدرك أنّ الحروب في جنوب لبنان لم تعد واردة خصوصاً أنّ إسرائيل تريد تثبيت الهدنة لتأمين استخراج آمن للغاز من البحر، وهناك من يفكر في تحديد قنوات التواصل مع «حزب الله»، أي بعبارة أوضح قناة لبنانية رسمية جدية تعطي النتيجة المرجوّة وفي الوقت نفسه لا تُحرج واشنطن.

تطورات قتالية حصلت: اغتيال سمير القنطار الذي كان عنواناً لبناء قاعدة لمقاومة اسرائيل عبر الجولان. ومن ثم زهران علوش أو الرجل صاحب النفوذ القوي في تهديد دمشق إضافة الى خطة إخراج «داعش» و«النصرة» من المحيط الجنوبي لدمشق.

كل ذلك له عنوان واحد هو تأمين المنطقة الفاصلة ما بين دمشق والجولان تحضيراً للمرحلة اللاحقة. وفي لبنان تحضيرات من نوع آخر، تجهيز قنوات التفاوض مع «حزب الله» في انتظار ساعة الصفر التي لم تعد بعيدة على ما يبدو.