ينصدِمُ الناظرُ الى واقع البلاد العربية، اليوم، بالحالة غير الموصوفة التي تهاوت فيها المجتمعات السياسيّة، والكيانات الموروثة، وتلك التي تأسسَّتْ على مبادئ قوميَّة وعقيديّة، بعدما أوْغلَتِ النُخَبُ الفكريّة بالتنظير، وبناء قصورٍ هوائيّة، وإنْجَرفَتْ في تيّاراتِ الرّجعيّةِ التكفيريّة، من دونِ أنْ تُقيمَ حِساباً لإمكانات السقوط في مهلِكَة المؤامرات المحبوكة على طاولات صُنَّاعِ السيناريوهاتِ التخريبية والتقسيميّة...

والسؤالُ الذي يَطْرَحُ نَفْسَهُ بقوّة، في هذه الظروف، التي إختلطَ فيها الأحمرُ بالأسْودِ، على حِسابِ الأبيضِ والأخضر، مع ما يحتِملُ ذَلِكَ من دلالاتٍ، هو: هلْ القصْدُ المباشرُ، مِنْ إطلاقِ إحتفاليّة (​الربيع العربي​)، هو القضاء على فِكْرَةِ وقُدراتِ ومفاعيل القوميّة العربيّة بالتقسيط؟!

وهلْ إنَّ من مُسْتَلْزماتِ هذا الجُنون، أن يتِمَّ إسْتِفرادُ الكيانات والأنظمة وإسقاطها، بالتتابع، وُصولاً إلى خَلْقِ أو فَرْضِ واقٍعٍ ديموغرافي وجغرافي جديد، تختلطُ فيه أوراقُ اللُّعبة، ولا يكون للعرب الأقوياء فيه كلمة؟!

إنّ الجيوبوليتيكية العربية الجديدة، التي تنرسِمُ بالدّم والدمار، على مدى ومساحة الجغرافيا العربية، تؤشِّرُ إلى سعيٍ واضحٍ مِنَ المتآمرين الدوليين، ووكلائهم المحلّيّين، بهدَفِ خْلْقِ بلدانٍ عربيّة ضعيفة وموزّعةِ الإثنيات والإنتماءات ودائمةِ التّفتُّت، تكون وظيفتُها الأولى خِدْمةُ الكيانِ الصّهيوني الذي يتآكل من داخلهِ!

والمُشْكِلةُ الكبرى في هذا الوضعِ العربي الإستثنائي، هي غيابُ المرجعيّة العربية، بوَجْهَيْها القوْمي و​الإسلام​ي. وهذا ما يَطْرَحُ تساؤلاتٍ وهواجسَ حادّة ومشروعة، من قِبَلِ جِزءٍ أساسي وواسع وأصيل، من المسيحيين العرب، الذين يَرَوْن أنفُسَهم أَوَّلَ المُسْتَهْدَفينَ، مَنْ خلال إستهدافِ الأنظمة العلمانيّة والكيانات المدنية، التي شَكّلَتْ لهم ضمانةً وجوديّة أكيدة، في زمن تنامي السلفيات التكفيرية، التي كان المسيحيّون أَوَّلَ إستهدافاتها تهجيراً وقتلاً وتدميرَ حضارات وهدْمَ كنائسَ وأديار ومحْوَ تُراث...

وواقِعُ الأمورِ، أنّ المسيحيين العرب، يجدونَ أنفُسَهم الْيَوْمَ خارِجَ أَيْ حِمايةٍ مرْجَعيِّةُ عربيّة، بَعْدَ التآمر على الكيانات العلمانيّة والمدنيّة التي أَمَّنَتْ لهم ظروفاً سليمة لعيْشِ المواطنة وممارستها بحُرّيةٍ، بما أَشْعَرَهم بأنّهم من صُلْبِ الدول والقومية التي ينتمون لها، بعيداً عن الإحساسِ بالغُبْنِيّة والدونيّة والإستهداف الذي يشعرون به اليوم!

والواقعةُ المُخيفةُ التي تُرْخي بتداعياتها على (التنوّع العربي) بتعَدُديّته الطائفيّة والمذهبية، هي الشعور الصَلْبُ عِنْدَ المسيحييّن، أنهم أصبحوا على هامشِ الهَمِّ العربي، وعلى رصيفِ القومية العربية، التي كانت مِحْوَرَ إنتمائهم والتزامهم بقضايا العرب وأنشغالاتهم!

غَيْرَ أنَّ المشكلة الأكثر تعقيداً، والناتجةَ عن تصميمِ بعضِ الْعَرَب على إلغاءَ الكيانات المدنيّة الواعدة بِغَدٍ زاهر، هي الفراغ الحاصلُ في مواقع المرجعيات الدينيّة المسلمة، التي كان من المفروض عليها، الإنتصار للمكوِّنِ المسيحي وتقديم الضمانات العَيْشيّة له، وعدم تركه فريسةً لهمجيّة التكفيريّين وإجرامهم اللّابس لُبوسَ الدين... فمن حقّ المسيحيين العرب أن يفتقدوا عنايةَ إخَوَتَهم المسلمين بوجودهم، وعدم مبادرتهم الى إتخاذ خططٍ ثابتةٍ للدفاع عن دورهم وحضارتهم وتراثهم وهويّتهم العربية!

وَإِذْ لا يَجِدُ المسيحيون لهم مُعيناً ولا نصيراً، خارج الأنظمة العلمانية، فإنّهم يتحسَّرون كثيراً لغياب المرجعيتين الرئيسيتين في منظومة البلدان العربية، والتي كان من المفترَض أن تتخِذَا مواقف كبيرة تجاه القضايا المصيريّة، وهما:

1- المرجعيّة الدينيّة، التي لا نفهم مُبرِّرَ صمتها تجاه الإعتداء على التعاليم وإستغلال حُمّى الفتاوى، وإستسهال التعمُّم والحُكْمِ بإسمِ ألشّرع، ونشر الظلم بإسم الإسلام، الدين الحنيف الذي أفقدَهُ الكافرون معنى الرحمة، وأسْقطوا عنه إنسانيّته وروحانيّته وسماحته...

2- المرجعية القوميّة، التي نفتقدها بعد إنكشاف الدور المرسوم ل​جامعة الدول العربية​، والتي تحوّلتْ الى أشْبَه بمجلس إدارة، للتحكّم بالثروات وإستثمار القدرات العربية في المواضع غير الصحيحة، على شاكلة جمعياّت (الشوكة والسكّينة)، التي لا تلتقي إلاّ على المناسِف والمقاصِف ومآدِبِ الزَّفر ومجالس الشراب والطرب!

هذانِ الغيابانِ، يُؤهِّلانِ لتهيئةِ الأرضيّاتِ العربيّة، لتغييراتٍ حادّة، سيدفع كلُّ العرب أثمانها من رصيدهم الخاص...

وَلَيْسَ مَنْ مُستفيدٍ من هذه التغييرات، التي نأملُ إجْهاضها قَبْلَ إكتمال حلقةِ نُمُوِّها، إلاَّ الكيانُ الصهيوني، الذي ينظر الى مشاهد تدمير العرب للعرب وبالعرب، من مقصورته الخاصة، في المسرح الدولي، مُسْتعيراً من قاموسِ عباراتنا التراثية، مَقولةَ: "سِيرِي، سِيرِي، فأينما هَطَلْتِ ، فسيأتيني خَراجُكِ"، يقيناً منه أنّ الغباء العربي، هو أفضلُ حقولِ الإستثمار، للحِفاظ على كيانه الغاصِب!