ظاهرة التوتر في العلاقات السعودية الايرانية تضيف إلى الأزمة اللبنانية عنصرًا تفجيريًا على البنية اللبنانية الهشّة، علمًا بأنّ هذا التوتر ناجم في العمق عن التنافس على الأدوار في المنطقة وأسبابه سياسية – اقتصادية ولا علاقة فعلية للسنة والشيعة في لبنان بحجم وحدود هذه الأدوار، وإنما العلاقة تقتصر على مزيدٍ من الإستتباع للطائفتين من الرياض وطهران على حساب المصالح اللبنانية والنسيج اللبناني.

النظام السياسي في كل من السعودية وايران هو "ديني" ويرتكز إلى فكرة "ولي الأمر" في المملكة و"ولي الفقيه" في الجمهورية، وفكرة "الحاكمية بالله" تجمع بين الدولتين، أي تطبيق القوانين الإلهية على الأرض. ومع ذلك، الإفتراق شديد بين الرياض وطهران ويأخذ تعبيرات تستبعد الحوار أو الإحتكام إلى ما يجمع بين العاصمتين المتنافستين.

لا شك أن الشرق الأوسط يستظلّ حاليًا بسقف التفاهمات الأميركية – الروسية وبما ترسمه واشنطن وموسكو لخريطة المنطقة في "مفاوضات جنيف". وقبل هذه "التفاهمات" كان دور القوى الاقليمية في الأزمة السورية من أنقرة إلى الرياض إلى طهران شديد الحضور والتأثير والإشتباك المباشر. مع المظلة الأميركية – الروسية على سوريا تغيَّـر المشهد وأخذت القوى الاقليمية على اختلافها بالإنكفاء النسبي خصوصًا من جانب "تعبيراتها الداخلية" العسكرية في الأزمة حيث المطلوب منها الإلتزام بالسقف الأميركي – الروسي الذي يعترف عمليًا فقط بالمؤسسة العسكرية والأمنية السورية ويصوغ لها دورًا بارزًا في صناعة المستقبل السوري.

على الأرجح أن واشنطن تحتاج للتوتر في العلاقات السعودية – الايرانية لخطة البحث عن الحل السياسي للأزمة السورية. فالحل السياسي المنشود من قبل واشنطن وموسكو يرتكز إلى "دولة علمانية"، وهذا أمر لا يناسب حسابات"الدولة الدينية" ويُهمِّش دور "الإسلام السياسي" باتجاهاته المتطرفة وغير المتطرفة ويقحم أي جهة اقليمية أو محلية تعترض على الحل السياسي في سوريا إلى الإشتباك مع واشنطن وموسكو مجتمعتين. وهذا شأن متعذر في ظل الإنشغال بالتوترات والبحث عن الأدوار.

قد تكون الخطوة السعودية في التصعيد إزاء ايران و"حزب الله" وفي مكان ما ضد الحكومة اللبنانية "رسالة" اعتراض على السياسة الأميركية التي لا تأخذ في الإعتبار مصالح حلفائها في المنطقة وتُغلِّـب براغماتية سياسية تنسحب سلبًا على الحلفاء... ففي هذه "الرسالة" تعرف الرياض جيدًا أن واشنطن تحرص على الإستقرار في لبنان وعلى توفير ما يلزم للمؤسسة العسكرية اللبنانية من تسليح. وبهذا المعنى، فإنّ حجب الهبة السعودية عن ​الجيش اللبناني​ لا تلتقي إطلاقاً مع الحسابات الأميركية في الأمن والإستقرار في لبنان. ومثل هذه "الرسالة" تفترض أن تبحث واشنطن مع الرياض مباشرة في "المخارج" وفي الدور الذي تحجزه للمملكة العربية السعودية ومدى الإلتزام بالمصالح السعودية مستقبلاً. وفي المعلومات أن واشنطن سارعت إلى معالجة "التداعيات اللبنانية" سواء بتطمين المؤسسة العسكرية اللبنانية وسواء بتطمين حاكم مصرف لبنان إلى حرص الإدارة الأميركية على الوضع المصرفي وسواء بإقناع المملكة بضرورة تحريك "الهبة المالية" من جديد وعدم الذهاب بعيدًا.

واقع الحال تعرف الرياض بأن إحدى أوراق القوة الأساسية التي تملكها هي الجالية اللبنانية في المملكة وفي دول الخليج. ومن الصعب التصوّر بأن المملكة التي يقلقها ما ترسمه واشنطن وموسكو من أدوار لدول المنطقة أن تضحّي بهذه الورقة التي لا يتضرر منها الشيعة فقط وإنما كل اللبنانيين وتحديدًا رجال الأعمال السنّة والقدرة على التأثير السعودي في الداخل اللبناني. فرجال الأعمال الشيعة اللبنانيون في المملكة هم الأكثر تفهما للسياسة السعودية والأكثر تحسّسًا بين الشيعة من التدهور الذي يمكن أن يحصل في العلاقات السعودية – اللبنانية. لكن يلمس المراقب السياسي نزعة جديدة في الخطاب السعودي تستند إلى التركيز على "العروبة". ومثل هذا التوجّه الجديد يحمل دلالات أن الرياض تريد أن تضع نزعة العروبة في مواجهة النزعة الايرانية، أي تعني فضاءً يعطي الإنتماء إليه من دون تحديد وبمعزل عن الإنتماء الطوائفي، أي أن نزعة العروبة تتنافى مع أي توجّه يستفز الشيعة أو المسيحيين. وعلى العكس، تفترض احتضاناً سعودياً لهذين المكوّنين الأساسيين في المعادلة اللبنانية. وبالتالي فإن الخطاب السعودي ينطوي على مضامين متعارضة في الشكل وإنما ترتبط بالهدف النهائي مما يجعل التوجهات السعودية تحتار بين ما هو تكتيكي وما هو استراتيجي. وقد يتفاجأ المراقب السياسي بأن السعودية في نهاية المطاف قد تتموضع تحت السقف الأميركي – الروسي وتحت عباءة "العروبة". بمعنى آخر، تندفع باتجاه الإشتباك السياسي مع ايران الذي لا تصل حدوده إلى الإشتباك العسكري. وفي هذا السياق فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الحريص على علاقة جيدة بالملك السعودي سلمان بن عبد العزيز يهمه أن يعيد الحرارة إلى العلاقة السورية – السعودية.

إزاء هذا الوضع المعقد في المنطقة مصلحة الشيعة والسنة في لبنان تفادي التصعيد في التوتر السعودي – الايراني. وهنا لا بديل من الحوار بين "حزب الله" وحزب "المستقبل"، لأن الحوار من نتائجه المباشرة "تبريد الأجواء‘". وهذا ما يعمل عليه رئيس المجلس النيابي نبيه بري والذي يمكن أن يسهم فيه أيضا المكوّن المسيحي... وفي كل الأحوال يروّج البعض لحرب سنية – شيعية في لبنان. وهي النقيض لـ"تبريد الأجواء". مثل هذه الحرب لن تقع... وأكثر من ذلك كل الأجواء ترسو على القاعدة التي أرساها الإمام السيد موسى الصدر والتي عنوانها "سحب سياسات التحدي في العلاقات بين المكوّنات اللبنانية". وهذه القاعدة الثمينة يحتاجها لبنان واللبنانيون أكثر من أي وقت مضى.

* رئيس المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع