فجأة، وبلا مقدمات معلَنة، اندلعت معارك عنيفة بين القوات الأذربيجانية والقوات الأرمنية عملياً في إقليم ناغورني كاراباخ المتنازَع عليه بين الجمهوريتين السابقتين في الاتحاد السوفياتي منذ انهيار الاتحاد وتشظّيه إلى دول ذات اتجاهات سياسية بعضها متصارع والآخر متآخٍ.
لا يمكن فصل المعارك المحتدمة والتي نتج عنها في اليوم الأول نحو 50 قتيلاً و200 جريح من الطرفين، فضلاً عن تدمير آليات وإسقاط طائرة عسكرية لأذربيجان، عما يدور من صراع في الإقليم.
لا يشك أحد في أن القوات الأذرية بادرت إلى فتح المعارك، رغم لعبة الخداع الإعلامي التي مارستها بإلصاق التهمة بقوات كاراباخ، ورغم مناشدة أرمينيا وقف النار، ومبادرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لدعوة عاجلة وفورية لوقف النار، وكذلك القيادة الإيرانية التي أبدت استعدادها لوساطة فورية لاحتواء الموقف ومنع تصاعده، لما لذلك من تداعيات على الأمنين الإيراني والروسي على حد سواء، وهو ما تمّ إدراكه لدى الدولتين منذ اللحظة الأولى.
هنا يُطرح السؤال: من هو المستفيد من حرب في جنوب القوقاز، ومن هو الخاسر على المدى الاستراتيجي؟
بلا شك، الخاسران الأكبران هما روسيا وإيران، لأن الهدف هو إشغالهما في معارك في حدائقهما، ونقل المعركة إلى تلك الحدائق، بعدما حقق التحالف بينهما انتصارات محورية، لا سيما في سورية، حيث كان أكثر المهزومين ألماً في هذه الساحة هما تركيا و"إسرائيل".
بهذا المعنى كانت الرسائل الإيرانية والروسية لتركيا، فقد أعلن مسؤولون إيرانيون أنه يمكن لطهران أن تساهم في حل الصراع ومنع اندلاع حرب، باعتبار أن ذلك "يشكّل تهديداً خطيراً على أمن إيران".
الموقف الإيراني المتزامن مع دعوة بوتين المترافقة مع أمل وزير خارجيته سيرغي لافروف بـ"عدم تدخُّل تركيا في شؤون الدول المجاورة"، يرتكز على جملة معطيات، أولها الإعلان الوقح للرئيس التركي عن دعم بلاده لأذربيجان في النزاع حتى النهاية، وبما تملك، وهو ما يفسّر صب الوقود على النيران الملتهبة لتأجيج أوارها، وطبعاً هذا الموقف الفوري استبقته تركيا خلال شهر بزيارات مكثَّفة لمسؤوليها إلى أذربيجان.
بموازاة التحرك التركي التأجيجي، لفت تركيز "إسرائيلي" في مقالات عدة، وقبل شهر من اندلاع المعارك، على استراتيجية العلاقة بين "إسرائيل" وأذربيجان، بحيث إن أفضل خبراء العلاقات الدولية في "إسرائيل"؛ ارييه غوت، قال إنه لا توجد في الفضاء الأوراسي دولة لها علاقة ودّية ووثيقة مع "إسرائيل" مثل اذربيجان، ومن المعروف أن "إسرائيل" تسلح أذربيجان بطائرات متطوّرة من دون طيار، وكذلك بصواريخ ضد السفن، وكذلك زوّدتها بمنظومة صاروخية للدفاع الجوي، مع محطات إنذار مبكّر.
كما تتكامل العلاقة بين أذربيجان و"إسرائيل" من خلال الموقف "الإسرائيلي" المعادي لأرمينيا، حيث إن اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة يتصدى للوبي الأرمني، ولسياسته الرامية إلى الحد من تسليح الولايات المتحدة لأذربيجان، والموقف "الإسرائيلي" يتماهى إلى الحد الأقصى مع الموقف التركي المعادي لأرمينيا.
وما يؤكد العلاقة المتزايدة عمقاً بين "إسرائيل" وأذربيجان، ما أعلنه الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف قبل بضع سنوات من أن العلاقات بين بلاده و"إسرائيل" هي "مثل جبل جليد 90 بالمئة منه متوارٍ تحت الماء وبعيداً عن أعيُن الدخلاء".
تأتي المعارك اليوم في إقليم ناغورني كاراباخ لإثبات ما كشفته "ويكيليكس" من أن حجم الابتعاد الأذربيجاني، وهي الدولة المسلمة بعد تفكُّك الاتحاد السوفياتي، عن العالمين الإسلامي والعربي والاقتراب مع "إسرائيل" وتركيا، والأخيرة باتت بمنزلة الأخ الأكبر لدولة غنية أصلاً.
الدبلوماسي الاميركي روني فنارفيلك كتب لوزارة خارجية بلاده في عام 2009، أن أذربيجان مثل "إسرائيل"؛ ترى في أن التهديد الأكبر لأمنها، بل لوجودها، هو إيران، وخلص إلى أن "أذربيجان هي التوأم المثالي لإسرائيل".
في الواقع، مقدمات هذه المعارك جرى التمهيد لها بعد تيقُّن تركيا و"إسرائيل" أن مشروعهما مع الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية قاب قوسين من الهزيمة، وأحلام الانتقام بدأت تأخذ طريقها إلى التنفيذ في رهان دموي آخر، عبر فتح معركة جديدة ضد روسيا وإيران قوامها تركيا و"إسرائيل" في جنوب القوقاز؛ الميدان الذي كان ساحات حرب بين الدولة العثمانية وإيران والإمبراطورية الروسية.