دخل العراق من جديد في عين العاصفة السياسية، مع استمرار إقامته في الدوامة الأمنية التي ترفض الولايات المتحدة من خلال أدائها أن تُخرج بلاد الرافدين منها إلا مثخَنة بالجراح.

لم تكن المفاجأة التي أحدثها "التيار الصدري" بالسيطرة على البرلمان وقيام البعض بضرب بعض النواب مجرد رد فعل وهياج جماهيري تصعب السيطرة عليه، خصوصاً أن العراقيين يُجمعون على أن "التيار الصدري" هو من القوى الأكثر تنظيماً وربما انضباطاً، وبالتالي ليست مصادفة أن تكون الخطوة التي شكّلت ذريعة للخصوم كورقة استفادة في إطار التناحر السياسي، قد جاءت بعد إعلان السيد مقتدى الصدر تعليق العمل السياسي لكافة أطر "التيار"، احتجاجاً على الفساد وعدم تشكيل حكومة تكنوقراط، وكذلك على ما اعتبره تقصيراً شعبياً.

يكمن الاستغراب أن الخطوة "الصدرية" تزامنت مع زيارة نائب الرئيس الأميركي، الذي صبّ الزيت على النار، وأرسل إشارات احتمال أن تعمّ الفوضى العراق إذا لم تسارع القوى السياسية في معالجة المشكلات التي ظاهرها الفساد، وهي حقيقة، لكن تختزن في بواطنها الكثير من المرامي السياسية، ولذلك لم يستغرب الواعون لما تريده واشنطن من أن يضرب الإرهاب ضربات متتالية، وأبرز تلك الضربات في السماوة، وكذلك بغداد، التي باتت مهدَّدة وفق التسريبات الأمنية، الأمر الذي دفع قيادة "الحشد الشعبي" والفصائل المقاومة إلى سحب القوات من الجبهات، لحماية بغداد، سيما أن الذين يديرون القوى الإرهابية اعتقدوا أن الفرصة اقتربت للانقضاض على بغداد، في ظل التصادم السياسي، ولأولئك مظلة برلمانية أيضاً يمكن الاستفادة منها.

هذه الصورة القاتمة ما كانت لتكون لو استُكملت الاتفاقات بشأن الحكومة التي كادت تضع الحل على السكة من خلال تمرير الدفعة الأولى من وزراء "حكومة الظرف المختوم"، على أن تُستكمل الحكومة خلال أسبوع، ضمن خطوات متتالية، لفكفكة الألغام، وهو ما كان وافق عليه "التيار الصدري"، واعتبر أن هذا الإنجاز ما ليتحقق لولا التحركات الشعبية التي قادها وحركها بنفسه.

في الواقع، لقد تخلخلت العملية السياسية في العراق، وباتت البلاد أمام انعطافة جديدة، وربما تبادُل في الأدوار والمواقع، ضمن اللعبة السياسية الأخطر التي تتزامن مع مسألتين هامتين:

1- ارتفاع منسوب الكلام من جانب الأكراد، لاسيما مجموعة مسعود البرازاني، بالانشقاق الكامل تحت اسم "الاستقلال"، وهو ما يلقى دعماً "إسرائيلياً" كبيراً، وكذلك من جانب تركيا، الأمر الذي تتضمنه خطة جو بايدن التقسيمية للعراق.

2- وقف الحديث عن تحرير مدينة الموصل؛ كأكبر حصن لقوى "داعش" الإرهابية، بعدما كانت على رأس سُلّم الأولويات، وهذا التراجع مردّه إلى تحقيق "الحشد الشعبي" والفصائل المقاومة إنجازات هامة أغاظت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها.

لقد اعتبرت الولايات المتحدة أن تحرير أي مدينة على أيدي أبناء السشعب العراقي دون مساعدتها وموافقتها تحدياً لها، وبالتالي لقوّتها، ولذلك تحركت سفارات تستلهم من الروح الأميركية، ولا سيما السعودية، وعادت محاولات الانقلاب في العراق، مقرونة مع تفجيرات إرهابية من المصدر نفسه، على أمل قلب الطاولة والعودة إلى خطة بايدن الأصلية، والتي فيها منفعة كبيرة لتركيا والسعودية بشكل مباشر، من خلال تمزيق العراق، لأن عراقاً موحَّداً سيكون قوياً، وبالتالي فإن ذلك يساهم في ضمور السعودية المترنحة، وكذلك تركيا بتاراتها القديمة.