مع تعاظم الدفق الفوضوي الهائل في تنامي وسائل الاعلام، الفضائية والأرضية بفنونها وأنواعها، في البلدان العربية، تُطْرحُ أسئلةٌ وهواجس، وترتسم تحديّاتٌ مِحْوريّة عِدَّة على مستويات متنوّعة، تتركّز حول أهداف ​الاعلام العربي​، الرسمي والخاص والديني، وتنطلق من دراسة البيئة التي ينشأ فيها هذا الاعلام، بتفرّعاته وفنونه وإستهدافاته، وكيفيّة معالجته وتعامله مع القضايا التي تهمُّ المجتمعات العربية، في تفاوتِ المستويات وتعددّ الإنشغالات التي تضغطُ على الواقع العربي، المأزوم سياسياً وحضاريّاً وإجتماعياً، في زمن الإختلالات الفكرية والتباعديّة الحادّة التي تهدِّد مسيرة وسائل الاعلام وإستمراريّتها، وتجعل أوْلوياتها في حالة تبدّلٍ لحظويٍّ دائم، وتعيش وضعيّة التأقلم مع ضواغط الشارع، والإنفصام القاسي، بين الإلتزام بأهداف ومنطلقاتِ الوسيلة الإعلاميّة، والتأكيدِ على القيمِ والمَوْروثات، ومفروضاتِ واقع الميدان العربي، في حالاته التنافريّة والدائمة التشظّي، والتي هدّدتْ فكرة (التضامن العربي)، بأشكاله القومية والتحالفيّة والسياسية.
ولا يمكن مقاربةُ هذا الموضوع، الذي تَتداخلُ فيه تشابكاتٌ عقيديَّةٌ و سياسيّةٌ وقوميّةٌ وإقليميّة، إِلَّا بالإنطلاق من طرح (الأسئلة-العناوين) التي ترسم خطّة البحث وتحدِّد هدفيّاته، وتحديد (المصطلحات) الضابطة لمعنى الكلام حول (إعلامٍ عربيٍّ) بالمُطلق، بعيداً عن التأويلات والإبهامات والألفاظ الضبابيّة، التي يختبئ بين مقاصدها كثيرٌ من (اللّا مُقال) و رُزْمةٌ من الإستراتيجيّات الخاصّة، التي تضعها بعض وسائل الاعلام العربية في مراتب إهتماماتها، سياسياً وترفيهياً دينياً وإقتصاديا...
وتفرضُ آليّة وضع دراسةٍ ركيزيّة، حول قضايا التغيير وسؤال المرجعية، في زمن التحوّلات الكبرى، التي تعصف بالمنطقة العربية، تقديم إجاباتٍ واضحة على أسئلة رئيسةٍ أبرزها:
1- أيّ مرتبةٍ يحتلّها الاعلام العربي بشكلٍ عام في جدول إهتمامات الناس، عرباً وغيرَ عرَب؟
2- ماذا نعني بـ(الاعلام العربي)؟ هل هو إعلام قوميّ، أم ديني، سياسي، أم مناطقي، أَمْ إعلامُ السلطةٍ القابضة والحاكمة والموَّجِّهة؟
3- الإعلامُ العربي، وقضايا الحرّية، ومفهوم (المُعْتَقَد)، وكرامة الإنسان، والتمييز بين حدود الدين وحدود الدُّنْيَا.
4- الاعلام العربي وعلاقته مع النُخَبِ، ومستوى الإهتمام (بالجودة) في إنتاج المواد والالتزام بفنيّة التغطيات، ورصانة التحليلات العلميّة، ومسؤوليّة الإخبار والتوقيت والإستثمار.
5- مسؤوليّة المركزيات السياسيّة العربية، عن مستوى الاعلام و أهدافه ومضامينه ووظيفته.
6- واقع جماهير الاعلام العربي: هلْ هم رعايا، أَمْ زبائن؟ ومَنْ يكتبُ لهم؟ ومَنْ يُنتِجُ لهم؟ مَنْ يُجَوِّدُ نتاجاتهم ويراقبُ مردوديّتها؟
7- الاعلام العربي، ومفهوم (حماية المستهلك)... مَنْ يحمي المُسْتعلِم من الاعلام الفوضوي غير المرجعيّ، والفضائي خصوصاً؟
إنّ محاولة الإجابة على هذه الأسئلة، التي ترتسمُ في الوجدان القومي، يمكن أن تسهم بتقديم إطارٍ تقويمي ونقدي للحالات التي يعانيها الاعلام العربي، وان تطرح مشاريع حلول للخروج من الوضعيّة المأزومة، الى وضعيّة التفكير الهادئ، والإسهام بإعادة رسم مسارات التطوير، على وَقْعِ التغييرات الديموغرافية والوضعية والسياسية، وبروز الحركات الدينية والعقيدية، في ظِلِّ ما يُعَدُّ للمنطقة العربية من سيناريوهات ومخططّاتٍ قاتلة، لا يمكن للإعلام أن يغيبَ عن مشهديّاتها، إنْ لَمْ نَقُلْ إنّه كان أحياناً كثيرة، مشاركاً بصياغتها وإنتاجها وتسويقها!
فإلى أيّ مدىً إستطاع الاعلام العربي، في العَشْريَّةِ الأخيرة، ان يُؤثر في الحراك التغييري المُجْتمعيِّ العام، و يرفده بالعناصر، بشرياً ومؤسساتياً وطروحاتٍ وأفكارا تفاعليّة؟
وهل نَحْنُ امام إعلامٍ عربيّ، ذات مرجعيّة صريحة وجريئة وقادرة على أخذ المبادرة وإستلام مفاصل وزمام القيادة، أَمْ نَحْنُ بمواجهةِ طفرةٍ إعلامية فطريّةٍ، تحكمها الفوضى وإعلان (إماراتٍ إعلاميّة) في زمنِ الإقتطاعات الجديدة، والإعترافات وتبادل أوراق الإعتماد بين الكيانات السياسية القائمة والمُفْتَرَضة؟
وكَمْ من دولة أو نظام عربيٍّ، إنهار وإختفى، أَوْ تتهدّده الحروب الداخلية والخارجية؟ وكيفَ يصُحُّ تقويمُ الاعلام العربي، بالعام؟
وكيف توزّعتْ ولاءاتُ النَّاسِ الاعلاميةِ والسياسية، مع تلك المتغيِّرات، الضاربة عُمْقَ التوجُّهَ والإرتكازَ العربيّ المتنافر؟
وَلَيْسَ (سؤالُ المرجعية)، غريباً عن سؤال التمويل والرَفْدِ المادي المُنعِشِ للتنظيمات والعصابات الفضائية الباثّة والزارعة للفتَن، والقاصدة التفتيتَ المجتمعي، والتشظي العمودي.
والأشَرُّ من كلامِ الفتنة والكفر وأفلامِ الدّم... هو تمويلُ الفتنة وشريكاتها، وكيفية إستثمارها في مجتمعات ذاتِ قابليّة مُسْبَقَةٍ للتغيير، لأيِّ تغييرٍ، وَلَوْ جَاءَ بإيحاءاتٍ تدميريّةٍ هادمةٍ للكيانات، ومهدِّدةٍ للسلم والوفاق والتقارب، ورافضةٍ للتفاهم ومواءمةِ الخصوصيّات...
وسؤال المرجعية يطرح أيضاً قضية موازية وحادّة، هي، مسألةُ (التغيير وقيود الحريّة) المسموح بها، وكيفيةِ التموضعِ بين مفهومَيْ (الرعاية) و(الحماية)، اللذين يرخيانِ بثقلهما على هَمِّ ومستقبل الاعلام العربي في زمن التحوّلات والتحويلات، وما قد يصيبه من تغييراتٍ في الشكل والمضمون أَوْ اللّامضمون، في مكتوباته ومُصَوّتاته وصمتيّاته...
وهنا يُطْرحُ سؤالُ البحثِ عن (مرجعية الحماية) و(مرجعية الرعاية)... بمعنى مَنْ يحمي الاعلام بممارساته وسلوكاته اللّاإنضباطية؟ وَمَنْ يَجِبُ أنْ يرعى شؤونه، ويحمي مواضيعه ويقيَ المتلقين من شرورِ المواضيع وأخطارها؟ بمعنى مَنْ يحمي (مستهلكَ الاعلام)، من الأخطاء الاعلامية واجراماتها؟!
وهنا يُطْرَحُ موضوعُ (حماية المُسْتعلِم)، وَمَنْ هي المرجعيّة المعنيّة بالرعاية والحماية، وتوفير الإستقرار الإعلامي، للإنسان العربي، بل للشعوبِ في البلدان العربية، مع تمييزٍ واضحٍ بين مصطلح (الوطن العربي) و(البلدان العربية)، ومعنى ودلالة القصد الجادّ لكلِّ ملفوظة.
وهل التكلّمُ عن الاعلام العربي، بالمُجْمَلِ الشموليّ، ينطبقُ بتفاصيله على الاعلام اللبناني، بفنونه وتجزيئاته، أَوْ على غير إعلامٍ مثلاً؟!
من هنا، تبدو أزَمةُ (سؤالُ المصطلَح)، نافرةً، بتباينٍ حادٍ، في الإستخدامات اللفظيّة المُطْلَقة وغير المُحَدَّدة، والتي تزيد من صغطِ الإبهامات، في التحديدات الواصفة للمنظوماتِ الاعلامية العربية؛ بين أن تكون؛ إعلاماً ملكياً (إعلام بلاط)، أو إعلاماً ديمقراطياً، أو إعلاماً عسكرياً، أو إعلاماً توتاليتارياً، أو إعلاماً رسمياً وعامّاً او إعلاماً إنسانياً...
وأكبر التحديات هي أنْسَنَةُ الإعلام، لا تطويبه، ولا تديينُه، ولا عسْكَرَتُه... بَلْ جعله معرفياً سلامياً...
وفي هذا الحَرَجِ، يبرزُ سؤالٌ مرجعيٌ آخر، حولَ دِقَّةِ إيجاد (ضابِطِ إيقاعٍ) للإعلام العربي، في زمنٍ عربيٍّ مُتَغَيِّرٍ بالقوّة... وليس هو تغيّيريّاً بالفعل... كالفرقِ بينَ التأصيلِ والتطوّر، والتسَلُّفِ والإنفتاح...
وهلْ يطمَئنُّ المُسْتَعْلِمُ العربيّ، للإعلإم العربي، كمصدرٍ مرجِعيٍّ، أَمْ أنّه إعلامٌ يحملُ إلتباساتٍ، وتعوزه الصِدقيَّةُ والرصانةُ؟ وكيفَ للمتلقّي العربي أنْ يُفَرِّقَ بين "الديني" و"المدني" و"الإرتجالي"... في فوضى الفضائيات، غَيْرِ ذاتِ المرجعية الرسميّة؟
... "سؤالُ المرجعيّة" في الاعلام العربي، الذي نعتبره، سؤالاً محورياً، في مسيرة السياسات العربية ومسارها، لا يُمْكِنُ أنْ نَجِدَ له مخارجَ وأجوبة، في ظِلِّ تعدديّةِ التوجّهات، وتعاكس المواقع والتحالفات السياسية، التي هي مظهرٌ طبيعيٌ، في منظومة الكيانات العربية، الموزَّعَةِ نظُماً سياسيّةً متنوِّعة، تتنافر، وتختلف، وتتوافق... شأنها كالدولِ الأخرى، التي يجمعها دينٌ أو جغرافية أو قوميّة... لكن الواجبَ لَفتُه هنا، أنّ إيجاد مرجعية إعلامية عربية واحدة يفترضُ أصلاً ان تكون "الممالك والإمارات والدول والجمهوريات" مُنتظِمةً في قالبٍ سياسي موحَّد، وذاتِ فكرٍ واحد، وإعلامٍ بصوْتٍ عربيٍّ واحِدٍ...
وبين الرغبة بالتنوّع، والسعي الى الإمساك بناصيةِ القرار، تبرز الفوارق المايزة للخصوصيات العربية، والتي تحرص الجماعات السياسية والدينية والمذهبية، ذات الولاءات المتعدّدة، للحفاظ عليها وتظهيرها بقوّة. والإعلامُ هو أشَدُّ العلامات الفارقة وضوحاً، في "لُعْبَةِ الأمم العربية"، حيثُ الدولُ تُعْرَفُ من إعلامها، ومنسوبِ الحرية والاحترافية والرصانة فيه، بما يشي أنَّ (المرجعية الاعلامية) المفتقَدَة على الصعيد الديني، ليستٍ مطلوبةً على المستوى السياسي، أَوْ على الأقَلّ ليسَ مسموحاً بها، أَوْ لا لزومَ لها... والدليلُ أنّ الكيانات السياسية لا تتنازل عن مرجعيتها الاعلامية الخاصة، لصالح المرجعية الإعلامية العربية العامة، من منظور سياديٍّ مُطْلَق.
وكَمْ كانت طموحةً، "جامعة الدول العربية"، عندما حاولت سنة 2010 خَلَقَ "مُفَوَّضِيَّةٍ للإعلام العربي"، ظاهرها، تنظيميٌّ حماييٌ... وما بعدَ الظاهر، باطِنٌ، ما لبثَ أنْ إنكشَفَ، حيثُ بانَ أنَّ القصدَ من إقرار "المفوّضية"، هو فقط للإمساك بالإعلام العربي، بكُلِّيّتِهِ، والإطمئنانِ بعدمِ خروجه عن المسار العام، بمعنى التدجين والتطويع "والمشي بالصّف"، ومنعِ الخروجِ عَنْ النسْقِ العربي.
لكنَّ الوفدَ اللبنانيّ الى مؤتمر وزراء الاعلام العرب، أفْشلَ تلك المحاولة، وردَّ النيّاتِ الطّامحة إلى الورَق. كان القصدُ مَنْ إيجادِ مفوضيةٍ إعلامية، ضبطُ إعلاماتٍ الممانعة والمقاومة لا أكثرَ، ولا أَكْثَر...
وفي تقويمٍ تساؤليٍّ، أطرح؛ أين إعلامُ العروبة، من إنكماشِ الحِسّ القوميّ؟
وهل ثمة ملاحظة، أن فلسطين، قضيةً و أسئلة مصيريّةً، غابتْ عن لفظيّات الاعلام العربي ومُفرداته؟!
وفي مواسم مقْتَلَةِ سلاحِ الاعلام الفضائي ومخاطره، مِنْ حقّي أنا المسيحيُ، مع غيابِ المرجعية الدينية الاعلامية، التي يَجِبُ أن أركنُ اليها، أنْ أسألَ:
مَنْ يحمي التكفيريين، الذين يضطهدونني؟ ولماذا لا يتمُّ تكفيرهم من مرجعيةٍ إسلامية، فأطمئنُّ إلى أنني /أننا/ لسنا متروكين للقدَرِ؟!
وأنا المسيحيُ العربيُّ، المُسْتهدَفُ تاريخاً من اليهود، إزداد خوفي على وجودي، ليس من إجراماتِ بعضِ الكافرين التكفيريين فقط، بَلْ من صمتِ المرجعيّاتِ الاسلامية وغيابها عن طمأنتي، والإنتصار لأهداب الدين، وتصويب المسار، ومنْعِ (الإفتاء الإعلامي) من التمادي بالتسلّط والنفوذ.
أسئلةُ المرجعيّة الاعلامية، تتشعّب في مجتمعاتٍ عربيّة تتنافر... والتحدّي الأبرز، هو أن نتحضّرَ لإشكالياتٍ على مستوى فلسفة السلطة، وفلسفة النظام، وفلسفة أَوْ جدوى وجودِ جمهور أو جماهير اعلامية عربية، وهل نَحْنُ قادرون على تصنيفِ أنفسنا، زبائنَ أَمْ جمهوراً أم ضحايا إعلامٍ تعوزه مرجعياتٌ ثِقَةٌ، ويفتقدُ الى مرجعياتٍ مهنية ومعرفية ورسمية، ودينية مُطْمَئِنّةٍ ومُطَمْئِنَّةٍ، تزيدُ من قناعتنا أنَّنا اليوم أكثرُ حوَجاً الى إعلامٍ إنسانيٍّ، قَبْلَ أيِّ توصيفٍ آخر...