بعد التطورات الأخيرة التي شهدتها الجارة الأقرب، لاسيما الانسحاب الروسي الجزئي من قاعدة حميميم الجوية، وإعلان الأكراد نيّتهم إنشاء نظام فدرالي في مناطق نفوذهم ضمن "سورية الاتحادية"،لاسيما بعد توسّع انتشارهم في شمال البلاد وشرقها، إضافة إلى المواكبة الإعلامية التضليلية التي تلت هذين الحدثين، والهادفة إلى ضرب معنويات الشعب السوري وإرباكه، ارتفع لدى بعضه منسوب الخوف من تقسيم البلاد، كإحدى النتائج البديهية للحرب الكونية على سورية،لكن غير واقعية من الناحية العملية، وهذا ما يؤكده التاريخ الحديث للجمهورية السورية، الذي يعيد نفسه اليوم تقريباً، فلايمكن فهم السياسة الراهنة من دون قراءة التاريخ.

لاريب أن دور سورية الإقليمي ضمر بعد العدوان الدولي الكبير الذي تتعرض له، لكن الحديث عن أن "الجارة الأقرب" كدولة لم تعد موجودة فعلياً، رغم وجودها على الخريطة،كما جاء في التحليلات الاستخباراتية والسياسية "الإسرائيلية" وغيرها، ليس دقيقاً، رغم المأزق الذي تمرّ فيه الجغرافيا السياسية السورية راهناً، وهو ليس الأول والوحيد، ففي العام 1957 شهدت الحدود الشمالية السورية حشوداً عسكرية تركية بحُجة المناورات العسكرية كان الهدف الحقيقي لها آنذاك ضد التدخل السيوفياتي، والحظر الشيوعي في سورية، لكنها خرجت من هذا المأزق قويةً بعد وحدتها السياسية مع مصر في العام 1958.

كذلك بين العام 1979 و1984، تعرّضت سورية لضغوط أميركية، إثر حوداث تنظيم "الإخوان المسلمين"، المدعوم آنذاك من "نظام صدام" في العراق ومنظمة "فتح" بقيادة ياسر عرفات.

في المقابل، تلقّت دمشق دعماً روسياً عسكرياً وسياسياً غير محدود في عهد الزعيم السيوفياتي يوري اندروبوف، فتمكّن الرئيس حافظ الأسد من شلّ يد هذا التنظيم، بعد دخول الجيش السوري إلى طرابلس في العام 1985،التي تحوّلت في حينه إلى ملاذلـ"الإخوان"، بقصد استهداف الأمن القومي السوري.

بالعودة إلى الضغوط المذكورة، في 1983 أطلقت القوات الجوية الأميركية عشرات المقاتلات ضد مواقع الجيش السوري في لبنان، تحديداً في البقاع، بذريعة أن السوريين استهدفوا بصواريخ أرض جو طائرة استطلاع أميركية، وكانت النتيجة إسقاط المضادات الأرضية السورية - الروسية الصنع ثلاث طائرات نفاثة أميركية فوق البقاع.

تاريخ العلاقات القوية بين روسيا وسورية يعيد نفسه اليوم مع الرئيسين فلاديمير بوتين وبشار الأسد، فلا جدوى من الضغوط الدولية لإسقاط الدولة السورية، أوتغيير حدودها السياسية بوجود الدعم الروسي لها، وغير المسبوق، وفي الوقت التي تتمسك موسكو بالحكم السوري، وبوحدة الأراضي السورية، وبضرورة مكافحة الإرهاب، على أن يكون للجيش السوري الدور الطليعي في هذا الشأن.

فالدولة السورية ماتزال قائمة، ومرتكزة على ثلاث دعائم أساسية: الرئيسوالجيش والأجهزة الأمنية، ومادام هذا "الثالوث"قادراً على حماية العاصمة دمشق وعقدة مواصلات سورية وهي حمص، والساحل السوري الذي يشكّل متنفساً اقتصادياً وعسكرياً لهذه الدولة، فهي باقية، ولا خوف من سقوطها.

أما بالنسبة للمناطق الخارجة عن سلطتها، فيعتبر مرجع استراتيجي أنها قد تعود إلى كنف الدولة إما من خلال عملية عسكرية، أو من خلال مفاوضات سياسية.

وهكذا، يظهر بقوة خطأ مقولة "الدولة السورية لم تعد موجودة على الخريطة الإقليمية"، فدور سورية في المنطقة يفرضه التاريخ والحضارة العريقة والجغرافيا، فهي تشكّل عقد مواصلات عالمية عبر التاريخ، وقوة هذه الدولة تكمن في عدم قدرة الدول الكبرى على تخطّيها، وما المأزق الكبير الذي تمرّ به الدولة وحجم الحشد الدولي ضدها سوى مؤشرات على أهمية سورية الاستراتيجية؛إقليمياً ودولياً.