من يعتقد أنّ ممارسات التنظيمات الإرهابية بحق المسيحيين في سوريا والعراق وتحديدا في الموصل عابرة فهو لا يدرك خطورة ما يحدث. عدوانية ممنهجة مدروسة يمارسها تنظيم "داعش" بإسم الإسلام بحق المسيحيين لإقتلاعهم من الشرق قتلا أو تهجيراً. يريد تدمير آثارهم من خلال هدم الكنائس والأديرة، ومحو ذكرهم.

من يقف وراء "داعش"؟ ولماذا؟

بدا أن هناك محركاً يسيّر "الداعشيين" لضرب المسيحية، وتحديداً المشرقية. تجمع المعطيات على أن المخطط إسرائيلي لأسباب عقائدية تتصل بالصهيونية. بدأت في سوريا وتستكمل في العراق، ولاحقاً في لبنان، فتسقط حكماً في فلسطين والأردن وكل الشرق.

مشاهد العنف مقصودة لدفع المسيحيين الى مغادرة أرضهم. الغرب جاهز تباعاً لإستقبالهم. ألم تُرحب فرنسا بمسيحيي العراق؟! وجود المسيحيين بما يحملونه من حضارة يُشكل خطراً على التطرف الإسلامي واليهودي. لا يبدو الثأر الصهيوني التاريخي من المسيحيين بعيداً عن تصرفات "داعش" اليوم. يريدون نسف المسيحية لإبقاء العهد القديم. هم يدركون أنّ الخطر الفعلي على عقيدتهم يكمن في المسيحية.

في بداية الأزمة السورية سرق المسلحون من منطقة جوبر الدمشقية محاضر ووثائق وأقدم توراة في التاريخ من معبد يهودي ليصل بعد أيام الى تل ابيب. لم يتحدث المسلحون عن العملية، لكن الحاخامات الإسرائيليين قالوا أنّ "لواء الإسلام" التابع للمعارضة السورية هو من نفذ العملية بالتعاون مع الموساد الإسرائيلي. لم ينف "لواء الإسلام" ولم تُكذّب المعارضة السورية الخبر. ثمة خيوط وصلات بين "إسلاميي الثورات" و إسرائيل، لا تبدو أبعادها بسيطة تتعلق فقط بنظام أو دولة.

الآن تنفذ إسرائيل عدوانها على غزة وتستهدف المسلمين و حركاتهم الإسلامية وهي مطمئنّة للمجموعات المتطرفة. أين تلك المجموعات "داعش" وأخواتها لا تتحرك دعماً للمسلمين في غزة؟! لماذا لم تحرّك ساكناً ولم تُطلق موقفاً؟ كيف تدّعي "الجهاد" في سوريا والعراق من أجل الإسلام وتترك المسلمين في غزة يموتون بالنيران الإسرائيلية؟ أين "الخليفة"؟ ألم يسمع بأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين؟ ألا يوجد أدنى إعتبار عنده للقضية الفلسطينية؟ أم أنه مشغول بهدم الكنائس وسبي نساء المسيحيين وقتل العراقيين؟ هل يصح "الجهاد" فقط في المسيحيين والأقليات والإعتدال الإسلامي؟ ألا ينطبق "الجهاد" على الإسرائيليين؟

تبدو إسرائيل مطمئنّة لإرهاب "داعش"، لا تعيرها أدنى إهتمام بدليل إستفرادها الفلسطينيين في غزة في عز قوة المجموعات الإسلامية.

العرب يتفرجون كعادتهم. فلماذا تُترك المسيحية في العراق وحيدة في مواجهة الموت تماماً كما تُركت في شمال وشرق سوريا منذ ثلاث سنوات؟ أين الطوائف المسيحية؟ تُرك السريان في سوريا يُهاجرون الى السويد وعواصم غربية فأصبحت تلك الطائفة أقلية في الشرق. يُترك الكلدان اليوم وحدهم دون مؤازرة فاعلة. وغدا سيُترك الآخرون من طوائف مسيحية ليأتي دور المسلمين غير الداعشيين.

أين الإعتدال الإسلامي؟ لماذا لا يتحرك المسلمون لحماية إخوانهم شركائهم في الوطنية والقومية والإنسانية والمصير؟ لا تظاهرات ولا إحتجاجات حصلت ولم يُرفع الصوت رفضاً. هل أصبح الكل عاجزين خائفين راضخين؟

فليشارك المسلمون على الأقل في قداديس المسيحيين في كل أحد تعبيراً عن تضامنهم الفعلي مع المسيحيين ورفضاً لإرهاب "داعش". فلتعج الكنائس والأديرة بالزوار والمشاركين بالتضامن من كل الطوائف. فليعظ رجال الدين المسلمون المعتدلون في الكنائس على شكل محاضرات. لم لا؟ فلتخصص خطب الجمعة في المساجد للحديث عن واجب الحفاظ على المسيحيين، طالما ان الهدف هو حماية الإنسان والتنوع والحفاظ على العيش المشترك. أساساً للمسلمين مصلحة في عدم تصحر الشرق. فلتُعلن حالات الإستنفار والتضامن إلى حدودها القصوى. لا كفر بالدين ولا ارتداد طالما أن الهدف هو الإنسان أياً تكن طائفته.

عام 1975 ألقى الامام موسى الصدر محاضرة في كنيسة الآباء الكبوشيين محارباً الجهل كعادته، وإختار أن يجلس تحت الصليب. فقال للمسيحيين: أجد نفسي في وسط الطريق الى جانبكم، أجد نفسي واعظاً ومتعظاً، قائلاً ومستمعاً، أقول بلساني وأستمع بجناني، يشهد لنا التاريخ، نستمع له فيستمع لنا(...).

كان تركيز الإمام الصدر على الإنسان الذي نلتقي من أجله. أوضح أن الإيمان هو من أجل الإنسان بغض النظر عن نوع العقيدة الدينية: "الإيمان ببعده الآخر يسعى لصيانة الإنسان وحفظه، ويفرض المحافظة عليه، ويؤكد عدم وجود الإيمان دون الالتزام بخدمة الإنسان".

رسّخ الإمام الصدر حقيقة بحضوره وجسدها بجوهر كلامه، فدعا الى العودة للطريق السوية، متوجها الى المسلمين والمسيحيين: "اجتمعنا من اجل الانسان الذي كانت من اجله الاديان، وكانت واحدة آنذاك (...) نلتقي لخدمة الانسان المستضعف المسحوق والممزق لكي نلتقي في كل شيء، ولكي نلتقي في الله فتكون الاديان واحدة".

كانت تلك المحطة أبلغ دلالة من رجل دين عالم وقائد. فأين رجال الدين اليوم؟ أين المسيحيون والمسلمون لا يجتمعون من أجل الإنسان الذي يتعرض للإبادة من قبل وحوش بشرية تقتل وتنكّل وتمارس طقوس الجاهلية؟ إذا لم ينتفض الناس الآن للحفاظ على وجودهم وإنسانهم في هذا الشرق متى ينتفضون؟