قالها عضو "كتلة المستقبل" النائب ​أحمد فتفت​، "الفراغ أفضل من انتخاب رئيس تكتّل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية".

قالها فتفت، في معرض تبريره لما يشبه "الفيتو" المفروض على عون، "فيتو" يرجع بشكلٍ أساسي لرفض استنساخ تجربة الرئيس السابق إميل لحود، الأليمة جداً بالنسبة لـ"التيار الأزرق" على كلّ المستويات.

ولكن، من حيث يدري أو لا يدري، ضرب فتفت بكلامه هذا الكثير من الأدبيّات "المستقبليّة"، التي لطالما حمّلت مسؤولية الفراغ للخصوم، وذهبت لحدّ اعتبار "أيّ رئيسٍ منتخَب ديمقراطيًا" أفضل منه. فماذا لو انحصر الخيار بين الفراغ وعون، وهو أمرٌ أكثر من وارد؟ هل ينقلب "المستقبل" عندها على نفسه، ويشرّع تعطيل النصاب بكلّ بساطة؟!

رأي شخصي؟

صحيحٌ أنّ ما قاله النائب أحمد فتفت في هذا الصدد "رأيٌ شخصيٌ"، وهو ما حرص فتفت كما تحرص قيادات "المستقبل" على تأكيده، ولكنّ الصحيح أيضًا أنّ هذا الرأي ليس يتيمًا، إذ يتبنّاه جملةً وتفصيلاً أغلب وجوه "التيار"، إن لم يكن جميعهم، والأصحّ من هذا وذاك أنّ البيئة الحاضنة للتيّار هي التي تفرض مثل هذا الرأي، وهي التي لم تتقبّل أصلاً تبنّي ترشيح رئيس "تيار المردة" النائب ​سليمان فرنجية​، رغم إدراكها بأنّه يبقى "أهون الشرَّين".

وعلى الرغم من اعتقاد كثيرين بأنّ تبنّي ترشيح العماد عون يمكن أن يكون خشبة الخلاص لرئيس "تيار المستقبل" ​سعد الحريري​ من الأزمات المتراكمة التي يتخبّط بها، باعتبار أنّه قد يكون السبيل إلى العودة إلى السراي الحكومي، في وقتٍ لا يشكّ اثنان بأنّ "الشيخ سعد" أحوج ما يكون إليه أقلّه لتعويض ما فات منذ غربته القسرية، والتي لا يتردّد "المستقبليون" أنفسهم بوصفها بأنّها كانت خطأ فادحًا وأدّت إلى ما أدّت إليه من ندوبٍ وتفسّخات، فإنّ "المستقبليّين" يعتقدون أنّ أضرار مثل هذا الخيار تفوق محاسنه بأضعاف وأضعاف.

ولعلّ المخاوف المشروعة من تكرار تجربة الرئيس السابق إميل لحود، التي تحدّث عنها فتفت، تتصدّر قائمة الهواجس "المستقبلية" من عون، بل إنّ هناك رأياً داخل "المستقبل" يقول أنّ البعض قد يترحّم على لحود في حال وصل عون إلى قصر بعبدا، لأنّ لحود وإن كان "نَكِدًا" وفق الوصف "المستقبليّ"، إلا أنّ الظروف الموضوعية إبان عهده لم تكن تسمح له بالمسّ بما يعتبرها "المستقبل" خطوطاً حمراء، وفي مقدّمتها اتفاق الطائف، الذي يكاد يكون مقدّساً في الأجندة "الزرقاء"، في حين أنّ عون لن يتوانى عن فعل ذلك، وقد أعلن عن "نواياه غير الحميدة" في هذا المضمار في أكثر من مناسبة، ولو حاول تليين مواقفه لهذه الناحية في الآونة الأخيرة.

وما يزيد من رسوخ هذا الرأي في البيت "المستقبليّ" هو اصطدام الوساطة التي حاول رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع أن يقودها مؤخرًا لإقناع "الشيخ سعد" بالسير بعون في الرئاسة بالحائط الذي يكاد يكون مسدودًا، حيث تشير كلّ المعطيات إلى أنّه سمع كلامًا شبيهًا بكلام فتفت، وإن لم يكن مطابقًا له بحرفيّته، بمعنى أنّ "الحكيم" لم يستطع أن يمون على "المستقبليين" لتبنّي خياره، رغم كلّ الضمانات التي حاول أن يعطيهم إياها، لأنّها بكلّ بساطة "لا تُصرَف"، في المنطق "الأزرق".

المكابرة مستمرّة!

عمومًا، فإنّ كلامًا من النوع الذي أدلى به فتفت من شأنه أن يقضي على كلّ موجات التفاؤل المفرط الذي أحاط بالرابية خلال الفترة الأخيرة، ففيما كان ينتظر "الجنرال" من "تيار المستقبل" مبادرة حسن نيّة بالحدّ الأدنى تجاهه، بعدما احترقت كلّ الأوراق الأخرى التي حاول رميها في السابق، إذا به يرمي بورقة "حمراء" في وجهه، على طريقة "بدل ما يكحّلها عماها" ربما.

رغم ذلك، فإن المحيطين بعون يصرّون على أنّ كلّ الطرق ستوصل في النهاية إلى الخيار الذي لا بدّ منه، وهو خيار تبنّي "الجنرال"، لأنّ لا خيار ثانياً مطروحًا في المدى المنظور، رغم كلّ ما يُروَّج ويُسوَّق بخلاف ذلك. وانطلاقاً من هنا، هم يقولون أنهم لن يتخلّوا عن تفاؤلهم، لأنّ "المستقبل" سيتخلّى عاجلاً أم آجلاً عن "مكابرته" التي تطبع عمله السياسي، وسيقتنع بأنّ القبول بعون هو مفتاح الحلول ليس فقط للأزمة الرئاسية المستفحلة، بل لأزماته الداخلية، التي لا يمكن لا لمؤتمرٍ داخلي ولا لرعايةٍ إقليمية حلّها، خصوصًا أنّه بدأ يغرّد وحيدًا، بعدما أصبح عون يمتلك قبولاً، على الاقلّ في العلن، من جميع الأطراف باستثناء "المستقبل"، بمن فيهم رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب وليد جنبلاط.

وأبعد من ذلك، يرى هؤلاء أنّ كلام فتفت يدينه ويدين قيادة "تيار المستقبل" أولاً وأخيراً، فـ"التيّار" الذي لطالما اتهم خصومه في السياسة، وعلى رأسهم "حزب الله" وتكتّل "التغيير والإصلاح" بالسعي نحو الفراغ لغايةٍ في نفس يعقوب، لا يتردّد في الحديث عن أفضليّة للفراغ على مرشحٍ، يعترف القاصي والداني بأنّه المرشح الشرعيّ الأفضل والأكثر تمثيلاً، وبالتالي فهو يبدو كمن يشرّع لنفسه تكريس الفراغ بأيّ وسيلةٍ ممكنة، في حال خُيّر بين الاثنين، ولو كانت بشاكلة تعطيل النصاب الذي لطالما حاربه.

أما الخطأ الأكبر الذي يرتكبه "المستقبل" بهذا الموقف، في المنظار "العوني"، فهو أنّه يشخصن المعركة مع "الجنرال" من دون أن يحفظ أيّ خط للرجعة، في وقتٍ يفترض به فعل العكس تمامًا، لأنّه حتى لو بقي على مكابرته ورفض انتخاب عون رئيسًا، فإنّ الأخير، سواء أتى رئيسًا برضا الحريري أم من دونه أو لم يأتِ، يبقى زعيمًا مسيحيًا له حيثيته الشعبية والتمثيلية، التي اعترف بها حتى منافسوه عليها، وبالتالي فلا يمكن للحريري ولا لغير الحريري القفز فوقها، وعليه التعامل معه كما تقتضي أصول العيش المشترك، الذي لا يخلو خطابٌ لـ"الشيخ سعد" من التغنّي به وبمزاياه.

هيّا إلى التحدّي!

يبقى الحكم على النوايا مرفوضًا "مستقبليًا". بمنطقهم، الرأي شيءٌ، والممارسة شيءٌ آخر، وبالتالي فإنّ مجرّد الاحتكام لرأي أحد النواب يقول أنّ الفراغ أفضل من هذا المرشح أو ذاك غير كافٍ لإدانة "التيار".

من هنا، يفتح "المستقبليّون" التحدّي. "ليؤمّنوا الأغلبية المؤيّدة لعون، ولينزلوا إلى المجلس النيابي لانتخابه، وليحاسبونا عندها إذا عطّلنا النصاب"، يقولون، مضيفين: "لكن، أن يحكموا علينا لمجرّد تعبيرنا عن رأيٍ نؤمن به، فقد يكون ذلك عيّنة بسيطة عمّا يمكن أن ينتظر البلاد في حال استلموا حكمها".

وبين هذا الرأي وذاك، يبقى الواضح أنّ المواقف تبدو على حالها، وأنّ أيّ انفراجٍ رئاسي لم يحن موعده بعد، بانتظار ضوءٍ أخضر أو دخانٍ أبيض لم يعد معروفًا من أين يمكن أن يخرج، في ظلّ الانشغالات الدولية والإقليمية بما يتخطى الملف اللبناني شكلاً ومضموناً!