تقاطعت الشهادات التي أدلى بها شهود عيان كانوا في الكنيسة الفرنسية عند نقطة تكاد لا تصدق، وخلاصتها أنّ الكاهن الذي كان يحتفل على المذبح بالذبيحة الإلهية قال لمن قتله، وقبيل أن يسلم الروح الى خالقها: «ومع ذلك فإنني أحبك، وأدعو لك بالمغفرة على فعلتك».

وأنا أستمع الى هذه الشهادات ظننتني في عالم هو بالتأكيد غير عالمنا. خلتني في عالم الأساطير التي حاكها المسرح اليوناني القديم. وتساءلت: هل صحيح أنّ هناك إنساناً يقول لزاهق روحه أنه يحبه، وأنه يدعو له بالمغفرة.

ولكنه صحيح. والكاهن إبن الرابعة والثمانين تصرّف إقتداء بالمعلم الإلهي الذي غفر لصالبيه.

وتلك هي القوة الحقيقية...بل ذروة القوة.

القوة أن تحب الى أبعد حدود الحب... أن تحب قاتلك في زمن الكراهية المتفشية في النفوس، خصوصاً نفوس اولئك الذين جرى التغرير بهم ادعاء بإسم الدين الذي «لا إكراه» فيه. الدين الذي يعلّم أن «من قتل نفساً بغير نفس» كمن قتل الناس أجمعين.

الدين الذي لم يُسىء اليه أحد كما أساءت اليه هذه الزمر الإرهابية التي تحرفه (والأصح أنها تحاول أن تحرفه) عن وحيه، وعن نبيه الذي أرسل «رحمة للعالمين». الدين الذي خاطب الهه رسوله العربي بكلام هو من أهم وأعظم ما يمكن أن يكون رسالة سماح وعفو ورحمة كما جاء في القرآن الكريم: «لو شاء ربُّك لآمن مَن في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تُكْرِهُ الناس حتى يكونوا مؤمنين»!.

القوة أن تسامح في زمن الحقد.

القوة أن تغفر في زمن الثأر.

القوة أن ترمق قاتلك بنظرة الحب والحنان فيما الدماء تسيل أنهاراً على أيدي مدّعي القوة المادية الغاشمة.

قال المعلم الإلهي «ما من حب أعظم من هذا» وهو ما ينطبق على حال هذا الكاهن الجليل الذي كرّس حياته لخدمة الناس ليبث الرحمة في مجتمع القساوة والإجرام واستباحة المحرّمات.

هذا الكاهن القدّيس هو شهيد بامتياز. هو الشهيد. ليس شهيد الدين وحسب، وليس شهيد الوطن وحسب. وليس شهيد المسلمين والمسيحيين على حد سواء. إنه شهيد الحب اللامحدود.

إبن الرابعة والثمانين، بقوله ما قال لقاتله، ولزاهق روحه، إنما يعطي البشرية في الزوايا الأربع من المعمورة، مثالاً استثنائياً على أن الدنيا ستظل بخير.

إنها شهادة عظيمة على أنّ الحقد لا يمكن أن يسود وإن بدا سائداً في هذا الزمن الرديء.

وهي شهادة على أن الإرهاب آيل الى الإندحار إن لم يكن بالقوة، فإنما بالحب. الحب الحقيقي، الصافي، النقي، حبّ التغلب على الذات. حب العين التي تحدّق في القاتل فتصرعه بالإحساس الإنساني الصادق قبل أن يصرعه رصاص رجال الأمن.

نتساءل وقد أصبح كلا المجرم والشهيد وجهاً لوجه في حضرة العزّة الإلهية: كيف سيرد الإرهابي على كلام الشهيد الذبيح؟!.

عفوك اللّهم، وغفرانك، ورحمتك، وحبك اللامتناهي. واجعلنا نعرف أن نحب حتى قاتلينا.