مرّة جديدة عادت ​النفايات​ إلى الكثير من الشوارع اللبنانيّة، خصوصًا في بعض مناطق بيروت وجبل لبنان التي كان من المُفترض أن يتمّ نقل نفاياتها إلى مطمر برج حمّود، بعد أنّ إتخذ حزب "الكتائب اللبنانيّة" موقفًا إعتراضيًا حازمًا من عمليّات النقل إلى المنطقة المذكورة، سُرعان ما إنضمّ إليه حزب "الطاشناق" وبلديّة برج حمّود بطبيعة الحال، تحت وطأة الإحراج الإعلامي والسياسي. والحجّة الظاهرة أنّ عمليّات الطمر تتم بشكل عشوائي من دون أي فرز مُسبق للنفايات، وأنّ أعمال إنشاء المطمر المُوقّت على ساحل المتن توقّفت، ما يُشكّل مخالفات بالجملة لما سبق وإتفق عليه. فكيف ستنتهي هذه المُشكلة القديمة-الجديدة؟

لا شكّ أنّ مُشكلة رفع النفايات مُتشعّبة وهي تنقسم إلى مجموعة من الأسباب التي تتداخل في ما بينها، وأبرزها باقتضاب:

أوّلاً: صغر مساحة لبنان، وعدم توفّر مساحات جغرافية مناسبة لطمر القُمامة بعيدًا عن المنازل والناس، حتى لو بعد إعتماد أحدث وسائل الفرز والطمر المُعتمدة في أرقى دول العالم، حيث لا تُوجد مساحات واسعة خالية من الينابيع والمياه الجوفيّة، أو من المساحات الزراعيّة، أو من المبان السكنيّة، إلخ.

ثانيًا: ما أن يتم إختيار منطقة مُحدّدة حيث تعلو شعارات "(هذه المنطقة أو تلك) ليست مزبلة"، وبالتالي لا ترضى أي منطقة أو بلدة أن تكون مكانًا لرمي النفايات، خاصة وأنّ الدولة لم تُقدّم أيّ إغراءات جدّية مُقابلة لأهالي هذه المناطق، مثل الإعفاء من الضرائب والرسوم والفواتير كتعويض للضرر اللاحق بهم. كما أنّ العوامل الطائفيّة والمذهبية والسياسيّة دخلت بقوّة على خط إختيار أماكن الطمر، بحيث جرى رفع إعتراضات مُتقابلة بخلفيّات طائفيّة ومذهبيّة وسياسيّة، إلخ.

ثالثًا: فشل الحكومة الحالية والطبقة السياسيّة الحاكمة عُمومًا، في الخروج من منطق الصفقات والسمسرات للبحث عن حلول علميّة، والغرق في خلافات المُحاصصة وتقاسم "قالب الحلوى". والفشل أيضًا في اللجوء إلى خُطط بعيدة المدى لمعالجة النفايات، ولتشكيل معامل فرز بقدرة إستيعابيّة مهمّة، وإقتصار الحلول في هذا الصدد على مُبادرات فرديّة في أماكن مُحدّدة ومحصورة، إضافة إلى كثرة المُزايدات بين القوى السياسيّة لأهداف مصلحيّة ضيّقة وإنتخابيّة مناطقيّة.

رابعًا: عدم تهيئة الشعب اللبناني لتطبيق مبدأ فرز النفايات في المنزل، وفشل أغلبيّة البلديات في تطبيق هذا الأمر، حيث لا يزال الكثير من اللبنانيّين يرمون نفاياتهم في أكياس البقالة من دون تكلّف أي جُهد في إجراء عمليّات الفرز المنزلي ومن دون إعتماد أكياس خاصة بالنفايات. وبالنسبة إلى البلديّات، وفي حين بذلت بعضها الجهود المناسبة للمُساعدة في حل المُشكلة، فشلت الأغلبيّة المُطلقة بتطبيق سياسة الفرز المطلوبة، وفي تأمين الحلول لنفايات دائرة سُلطاتها. حتى أنّ بعض البلديّات مُتهمة بالقيام بعمليات رمي عشوائي للنفايات في الوديان، وبالقيام بأعمال حرق لنفاياتها!

خامسًا: إستخدام جهات سياسيّة عدّة ملفّ النفايات لتسجيل مزايدات طائفية وسياسيّة مُتبادلة، وللضغط في إتجاه الحُصول على تنازلات في مواضيع سياسية وخدماتية أخرى، في مُقابل المُوافقة على مطمر هنا وعلى خطّة عمل هناك، والكلام في هذا الصدد كثير، في ظلّ موجة كبيرة من الإشاعات وعلامات الإستفهام.

في الخلاصة، لا أحد ينكر على أنّ عمليّات الطمر العشوائي للنفايات من دون أيّ فرز مُسبق هي مسألة مُضرّة جدّا للبيئة ولصحّة الإنسان، ومن شأنها أن تترك "سُمومًا" في الأرض لا تنتهي إفرازاتها المُضرّة قبل عُقود من اليوم. لكنّ ترك النفايات مرميّة في الشوارع، أو القيام بحرقها تحت جنح الظلام، يُشكّل جرائم موصوفة على البيئة وعلى الإنسان على حدّ سواء، تفوق بأضرارها وبسيئاتها تلك التي تُسبّبها أعمال الطمر.

وبالتالي على المُعترضين من حزبي الكتائب والطاشناق، عدم تكرار خطأ التصعيد الفولكلوري الذي سبق لجمعيّات المُجتمع المدني أن إقترفته. فطالما مُواجهة عمليّات السمسرة والمُحاصصة والصفقات غير مُمكنة عبر الحكومة الحاليّة وعبر مجلس النوّاب الحالي، المنطق يقول بضرورة السماح بإستمرار عمليّات رفع النفايات من قبل مُطلق أيّ جهة ووفق مُطلق أي أسلوب لرفع الضرر المباشر عن الناس. وعلى خطّ مواز، يجب الإعتراض ورفع الصوت والعمل والضغط لإيجاد الحلول البيئيّة والصحّية المناسبة، والعمل والضغط لإيجاد جهة تتولّى هذه المُهمّة بعيدًا عن الصفقات والسمسرات. أمّا ترك هذه الأوساخ المُقزّزة بين المنازل والمباني، لتسجيل إعتراضات بهلوانيّة لا تُؤدّي إلى أي نتيجة، على أمل كسب صوت أو صوتين إنتخابيّين هو جريمة كبرى يجب أن تتوقّف اليوم قبل الغد. والمُحزن أنّ كل المعلومات تؤكّد العودة في نهاية المطاف إلى إعتماد مطمر برج حمود إضافة إلى مطمر كوستا برافا كحلّين موقّتين، في مقابل تعديلات شكليّة في عمليّات الفرز. وبالتالي ما يحدث حاليًا من تكاثر للنفايات في الشوارع مرفوض ومعيب.