مثلت الغارات الجويّة الأميركيّة-الدَوليّة على مواقع للجيش السوري في ​دير الزور​ مفاجأة صاعقة لمختلف الأطراف، كونها تسبّبت بالعديد من الإصابات بين قتيل وجريح(1)، وسمحت بسيطرة تنظيم "داعش" الإرهابي على جبل "ثردة" في محيط مطار المدينة، قبل أن تعود وحدات من ​الجيش السوري​ إلى أجزاء كبيرة من "الجبل" الإستراتيجي(2)بغطاء جوّي كثيف. فما هي حقيقة وخلفيّات هذه الغارات؟

الإحتمالات التي رفعها المُحلّلون الغربيّون متعدّدة ومُتناقضة أيضًا، وأبرزها:

ضربة مُتعمّدة بقرار من القيادة الأميركية السياسيّة العليا، لتوجيه رسالة قويّة إلى الجيش السوري بأنّه ممنوع الإستمرار في عدم الإلتزام بالتسويات الدَوليّة، وإستند أصحاب هذه النظريّة إلى أنّ مُسلّحي "داعش" سارعوا في فترة زمنيّة قياسيّة إلى شنّ هجوم واسع ومُركّز على مواقع الجيش السوري، وكأنّهم كانوا قد حضّروا العدّة والعديد في إنتظار هذه الضربات التمهيديّة. لكنّ رافضي هذه النظريّة من المحلّلين، لفتوا إلى أنّ الإدارة الأميركيّة السياسيّة لا يُمكن أن تتصرّف بهذا الشكل عشيّة الإنتخابات الرئاسيّة الأميركيّة، لأنّ الموضوع حسّاس ويُمكن أن يُستغلّ من قبل المُرشّحين المنافسين وأن يؤدّي إلى تقدّم أحدهم على الآخر إذا تبيّن أنّ إدارة الرئيس ​باراك أوباما​ متورّطة مثلاً. كما أشار هؤلاء إلى أنّ من بين القتلى الذين سقطوا، مقاتلين غير سوريّين ومجموعة من المُستشارين الروس الذين لم يُعلن عنهم، ما يُفسّر الغضب الروسي الذي فاق غضب النظام السوري نفسه، وما يجعل من المُستحيل أن تُقدم واشنطن على ضرب موسكو بهذا الشكل. وبالنسبة إلى هجوم "داعش" السريع، أكّد المحلّلون أنفسهم أنّ مُسلّحي هذا التنظيم هم في نزاع مفتوح مع الجيش السوري في تلك المنطقة، وهم بوضع مريح بعكس مجموعات الجيش السوري المُحاصرة في بعض الأماكن، مُعتبرين أنّ ما حصل هو مجرّد إستغلال لتطوّر ميداني تمثّل بإنهيار دفاعات الجيش السوري نتيجة العدد الكبير من الإصابات التي نتجت من الغارات. وأضاف هؤلاء أنّ الهجوم الذي شنّه مُسلّحو "داعش" بعد 7 دقائق على الغارات فشل في تحقيق أهدافه، بينما الهجوم الثاني الذي شنّوه والذي كان أكبر وأوسع بعد ساعات عدّة نجح في ذلك، ما يعني أنّ الأمر مُجرّد إستغلال لثغرة أمنيّة لا أكثر.

في المُقابل، رأى محلّلون آخرون أنّ الغارات الأميركيّة جاءت عن طريق الخطأ، نتيجة إحداثيات غير صحيحة من مُخبرين على الأرض يتعاونون مع قوّات التحالف. والأدلّة على ذلك كثيرة بحسب داعمي هذه النظريّة من المُحلّلين، وأبرزها أنّ هذه الغارات توقّفت فور إبلاغ الجيش السوري القيادة العسكريّة الروسية في سوريا أنّ مواقعه تعرّضت للقصف، ومُسارعة هذه الأخيرة إلى إبلاغ الأميركيّين بذلك، بالتزامن مع إرسال 16 مُقاتلة وطوّافة عسكريّة روسيّة من مطار "حميميم" إلى مدينة "دير الزور"، حيث عمدت الطوّافات إلى نقل عدد من الجرحى بتغطيّة جويّة من الطائرات الحربيّة. كما أنّ عملاً خطيرًا من هذا النوع لا يُمكن أن توافق على تنفيذه دول التحالف، ولا يُمكن للولايات المتحدة الأميركية أن تُبلغها به أصلاً، علمًا أنّ طائرات عسكريّة أستراليّة كانت تؤمّن الحماية للطائرات الأميركية الأربعة التي شنّت الغارات(3). أكثر من ذلك، لو كان من إستفاد من الغارات الأميركيّة، جماعات مُسلّحة محسوبة على واشنطن، كان يُمكن الحديث عن ضربة مُتعمّدة ربّما، إنّما المنطقة المُستهدفة مُحاطة بتواجد كثيف لمُسلّحي "داعش"، علمًا أنّه ليست المرّة الأولى التي يقوم فيها الطيران الأميركي بالإغارة على الجيش السوري عن طريق الخطأ(4). وقد شارك طيران "التحالف" في اليوم الثاني للضربة بالغارات على المواقع التي سيطر عليها تنظيم "داعش"، إلى جانب الطيران الروسي، ما سمح بإسترداد مُعظمها من قبل الجيش السوري.

في الختام، بغضّ النظر عن حقيقة وخلفيّات الضربات الأميركية الأخيرة على الجيش السوري، والتي جاءت عن طريق الخطأ على الأرجح، الأكيد أنّ الأراضي السوريّة كافة تحوّلت إلى حلبة مُصارعة تُشارك فيها العديد من القوى الإقليميّة والدَوليّة، وتحاول عبرها تسجيل النقاط السياسيّة وتعزيز موقعها التفاوضي، وحماية مصالحها الإستراتيجيّة، وذلك على حساب الدولة السوريّة، جيشًا وشعبًا ووطنًا.

(1)سقط ما لا يقلّ عن 62 قتيلاً وأكثر من مئة جريح من عناصر الجيش السوري.

(2)لو ثبّت إرهابيّو "داعش" سيطرتهم على جبل "ثردة" لكانوا عرّضوا الطائرات التي تستخدم مطار دير الزور للخطر، ولكانوا سيطروا بالنار على الكثير من خطوط إمداد الجيش السوري من قاعدة المطار نحو القرى المحيطة.

(3)نفّذت الغارات 4 طائرات أميركيّة، 2 من طراز F16 و2 من طراز A10.

(4)في 6 كانون الأوّل 2015، أغارت طائرات التحالف الدَولي على المعسكر الميداني للواء 168 في الفرقة السابعة في الجيش السوري، لكنّ حجم الإصابات كان محدودًا مُقارنة بما حدث في الغارات الأخيرة.