كلّ الأنظار شاخصة على حركة رئيس الحكومة السابق ​سعد الحريري​، وكلّ الآذان صاغية لمواقف "كتلة المُستقبل"، على أمل سماع إعلانه تأييد رئيس تكتّل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون لرئاسة الجمهوريّة، حيث يعتقد الكثيرون أنّ العقبة الأخيرة أمام عودة "الجنرال" إلى قصر بعبدا، بصفة رئيس للبلاد هذه المرّة، هي لدى "التيّار الأزرق" ومن يقف وراءه. فهل هذا صحيح، أمّ أنّ أغلبيّة قوى "​8 آذار​"، بإستثناء "حزب الله"، هي التي تُعرقل وُصول العماد عون إلى الرئاسة، لتفضيلها رئيس "تيّار المردة" النائب سليمان فرنجيّة عليه، وتتحجّج برفض النائب الحريري للنائب عون؟

إذا راجعنا المواقف العلنيّة منذ أكثر من سنتين حتى اليوم، نجد أنّه باستثناء "حزب الله" وبعض الصحافيّين والإعلاميّين المحسوبين على "الحزب" بشكل أو بآخر، لا يتحدّث أحد من نوّاب ومسؤولي قوى "8 آذار" عن العماد ميشال عون كمرشّح حتمي لرئاسة الجمهورية، ومواقف هؤلاء تتراوح بين حدّي التأييد التام للنائب فرنجيّة من جهة، ورمي كُرة العرقلة في ملعب سواها من جهة أخرى. وإذا نقلنا ما يُقال في الإجتماعات غير الرسميّة وفي الأوساط السياسيّة لهذه القوى، نجد تفضيلاً واضحًا للنائب فرنجيّة على النائب عون لرئاسة الجمهوريّة، والأمر نفسه يصحّ في "أحاديث الصالونات" وفي دردشات مواقع التواصل الإجتماعي. وهذا الأمر ينطبق على حركة "أمل" بالدرجة الأولى، وعلى "تيّار المردة" بطبيعة الحال، وكذلك على حزبي "البعث" و"القومي السوري". ويُضاف إليهم من خارج صفوف قوى "8 آذار"، تفضيل "الحزب التقدمي الإشتراكي" للنائب فرنجية على العماد عون، شأنه في ذلك شأن العديد من النوّاب المسيحيّين المُصنّفين "مُستقلّين" وغيرهم أيضًا.

وأمام هذا الواقع الذي يُصرّ الكثيرون على تجاهله، يُمكن القول إنّه حتى في حال سلّمنا جدلاً أنّ "تيّار المُستقبل" أخذ قرار التصويت لصالح العماد عون، فإنّ أصوات كتل كل من "التيّار الوطني الحُرّ" و"حزب الله" و"القوات اللبنانيّة" مع أعضاء "كتلة المُستقبل" (من غير المضمون إلتزام كل أعضائها في أيّ عمليّة تصويت مُقبلة) قد تكون غير كافية للوصول إلى الرقم 65، وهو عدد الأصوات المطلوبة لانتخاب أيّ رئيس للبلاد. وإحتمال أن ينال النائب فرنجيّة أصواتًا أكثر في أي معركة إنتخابية ديمقراطيّة كبير جدًا، خاصة في حال لجأ "التيار الأزرق" إلى خيار ترك الحريّة لنوّابه في أيّ عمليّة تصويت، من دون أن ننسى أنّ حزب "الكتائب اللبنانيّة" أعلن مرارًا مُعارضته التصويت لأيّ من المُرشّحين المذكورين، طالما لم يصدر عنهما مواقف تُغيّر نظرة "الكتائب" نحوهما.

ويبدو أنّ "حزب الله" المُدرك تمامًا لهذا الواقع، وغير الراغب على الإطلاق بخسارة الغطاء المسيحي لسلاحه ولعمليّاته الأمنيّة، والذي أمّنه له ولا يزال يؤمّنه له "التيار الوطني الحُرّ"، سيُواصل إعتماد سياسة الهروب إلى الأمام والمُتمثّلة بتحميل "تيار المُستقبل" ومن يقف خلفه، مسؤولية عرقلة حل مُعضلة الشغور الرئاسي. وبالنسبة إلى "التيار الوطني الحُر" فهو يعتمد من جهته سياسة إزالة العقبات أمام وُصول "الجنرال" عقبة بعد عقبة، وهو يطمح حاليًا لإزالة عقبة مُعارضة "تيّار المُستقبل"، بعد أن نجح في إزالة عقبة مُعارضة "القوات اللبنانيّة". ويُراهن "العَونيّون" على أنّه بُمجرّد إعلان النائب الحريري دعمه للعماد عون، فإنّ "حزب الله" سيتكفّل تلقائيًا بتغيير مواقف مختلف قوى "8 آذار" في فترة زمنيّة قصيرة.

لكنّ مسألة الرئاسة أعمق من تفضيل شخصيّة على أخرى، ومن عدد أصوات نوّاب هنا في مُقابل عدد أصوات نوّاب هناك، حيث تتداخل العقبات الداخليّة مع تلك الإقليميّة والدَوليّة. فحسابات الرئاسة تتجاوز هويّة الرئيس، لتشمل التوافق المُسبق، ولو بالخطوط العريضة، على شكل الحكومة المُقبلة وعلى هويّة رئيسها وعلى توزيع وزاراتها، وحتى على الإتجاهات الأساسيّة لسياساتها. وحسابات الرئاسة ستشمل توافقًا مُسبقًا على طبيعة قانون الإنتخابات النيابيّة وعلى شكل الدوائر وتقسيماتها، وتوافقًا مُسبقًا على الملفّ النفطي، إلى ما هناك من مشاكل وملفّات داخليّة. وحسابات الرئاسة تتجاوز هويّة الرئيس، لتشمل سُبل مراعاة نُفوذ القوى الإقليميّة، وفي طليعتها المملكة العربيّة السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانيّة، من خلال حصص القوى الحليفة لها على الساحة اللبنانيّة، وكيفية مراعاة مصالح القوى الدَوليّة في الداخل اللبناني أيضًا.

وبالتالي، صحيح أنّ ملفّ الرئاسة وُضع على نار حاميّة حاليًا، لكنّ الأصحّ أنّ الأمور مفتوحة على صفحات طويلة من الأخذ والردّ، حيث أنّ مرحلة التفاوض لحلحلة العقد الكثيرة ستطول لفترة زمنيّة لا بأس بها. والأكيد أنّ مسألة إنتخاب رئيس جديد للبنان، لن تكون عبر "ولادة طبيعيّة" بل عبر "عمليّة قيصريّة دقيقة".