الى وزير الإعلام اللبناني ملحم رياشي به أفخر مذ كان طالباً ومميّزاً في كليّة الإعلام والتوثيق في الجامعة اللبنانية.

ما كنت أتصوّر، يا ملحم، أنّ لبنان الذي لطالما تباهى أهلوه بكونهم روّاد الصحافة والحريّة، سيكون رائداً في موت صحافته الورقيّة وتمزّق مفاهيم الحريّة فيه الى حدود الكارثة التي بدأت تتعاظم ويبدو أنّها ستقوى وتشتدّ. نعم. تدفعني الكارثة اليوم الى عدم الشعور بالمجازفة عند المطالبة بإقفال كليّات الإعلام في لبنان الذي أسميته، في العام 1995 "الميديا ستيت" أي ولاية الإعلام في أطروحة للدكتوراه إستغرقت أكثر منّي أكثر من عقدين وطبعت ثلاث طبعات وكان عنوانها: الإعلام في لبنان وإنهيار السلطات. أعرف أنّك بارع في التواصل وتثبيت ملاحمها، لكنّ اللحام يفكّ في جهات الأرض وتسقط حضارة العولمة سريعاً بعدما ضاعت السيادة. الزعيم اليوم هو من يعرف أن يدافع عن سيادة نفسه وبيته ووطنه، ولهذا يتقدّس وينجح الخطاب المشدود بالأعصاب المحليّة الرفيعة.

هناك عوائق مادية كبرى تجتاح عالم الصحافة والإعلام في لبنان. إنقسامات هائلة معلنة لم تندمل لا في ​الصحافة الورقية​ ولا في الشاشات والإذاعات ولا في مواقع التواصل الإجتماعي. تخبّط وفوضى، بطالة وصرف تعسفي لمئات الصحفيين، وضمور كبير يتعاظم في مصادر التمويل التي أدارت ظهرها لأرباب الحبر. إنّنا في عصر فقدان سيادة الدول في العالم، فكيف إذا كانت السيادة من دون مضمون أو مفهوم في بلد صغير مثل لبنان يجعلكها أي مواطن أو مسؤول؟

إستفادت الصحافة اللبنانية قبل غيرها، من حضارة الكتابة الإلكترونية، وألغت مجموعات من العادات الكتابية التي لطالما تربّعت فوق عروش الحبر والسياسة والقرار. وقد حفّزتني تلك الظاهرة، الى إعلان "موت الصحافة الورقية في العالم في العام 2020" أي منذ 22 عام في أطروحتي المذكورة عينها، وتجرّأت على أسقاط كلمة "صحيفة" نهائياً من المعاجم في معناها القديم، مستوحياً تعريفها الجديد من مشروع فوليو Folio كما حددته نظرياً جامعة "كارنجي ميلون" Karinjy Milon الأميركيّة، بقرب اختراع شاشات L.S.D. القابلة للطي في الجيب، وعند فتحها

تعود شاشات تقليدية أو مادة تقرأ على الشاشة الصلبة أو اللينة، لتطوى مجدداً في الجيب. كانت مغامرة أكاديمية وصارت حقيقة مرّة لن يخرج منها لبنان.

أمّا الأسباب الحقيقية لهذه الأزمات الكبرى التي لا حلول لها فهي كثيرة لا يستوعب هذا المقام سوى التلميح السريع لغبار ما نكابده اليوم، منها ما هو خاص من الأسباب ومنها ما هو عام في عالم الصحافة والكتابة والأخلاق والقيم الوطنية. وفي تقديري أنّ الخاص يتقدّم على العام في هذا المجال، لأنّ بناء الإمبراطوريات الإعلامية في لبنان عن طريق الغير يتطلّب من كلّ كاتب أو صحافي أو أمبراطور إعلامي أن يخبرنا عن ثرواته وإستغلاله. يرفع فوق مكتبه كلمة تقول: "رحم الله إمرؤاً عرف حدّه فوقف عنده".

ليس لصحافي أن يطوي وطنه ويضعه في جيبه. الصحافي أجير في قانون العمل. كيف يصير إمبراطوراً يملك يخوتاً وقصوراً ويتجاوز أباطرة الحروب وأمراء الميليشيات الذين التفت جذورهم حول عنق لبنان ورمته مثل هيكل قبّوط جائع؟

1- في الخاص إشارة أكثر من ضرورية، الى أنّ لبنان كان وما زال يعاني من ندرة الديمقراطية وكثرة الحريّة فيه قولاً وكتابةً من دون أي مسؤولية قانونية ومساءلة يمكنها أن تعيد الإحترام للمعايير القانونية الواضحة التي يمكنها صيانة المستقبل الوطني.

كان حضور الصحافة اللبنانية ضعيفاً مقابل الحضور القوي للصحافة في لبنان عربية كانت أم أجنبية ومن مختلف الأشكال والألوان الذي جعل وطننا ساحة مستباحة والإستباحة لها أعباؤها في التاريخ. هناك فرق هائل بين الصحافة اللبنانية والصحافة في لبنان.

زهت الصحافة في لبنان وتأرجحت وتشظّت ولعبت في مواقد الحروب والنزاعات العربية والإقليمية الكثيرة وغالت بكونها أسلحة لم يكن يستهان بإندفاعاتها في تذكية نيران الخلافات الكثيرة فوق أرض لبنان. أنّها صحافة تبدو اليوم بمعانيها ووسائلها غير قادرة على ضبط حماستها وصراعاتها المتجددة الإشتعال التي لا تعكس السياسات بل تهندسها وتحسن لعبة رمي قوارب الزيت فوق النيران. هذا خطر كبير ومسؤولية أكبر في مفاهيم الإعلام، هذه "الكهرباء الإجتماعية" التي صدّق مريدوها أنّهم سلطة السلطات لا السلطة الرابعة. عندما ترفع سلطة ما القوانين في وجوهههم يصبحون مرايا شفافة ويرمون المسؤوليات على واقع السياسي وتشظياته الحزبية

والمذهبية. ويصبح أي مساس بالصحافة سحقاً للحريّة والنظام، وفي هذا إرتجال علمي وقانوني كبير إستعصى إصلاحه.

2- في العام، كنت من المشتغلين الجادين في البحث عن الانهيارات التي تحدثها وسائل الاعلام لدى الانسان المعاصر وأعني بـها "العاصفة أو الثورة الاعلامية الثالثة" التي جاءت بعد الثورتين الزراعية والصناعية في تاريخ البشرية، وقوامها الكاميرات والقراء ولوحات المقابس والهواتف والنواسخ والحواسيب وأقراص المعلومات، وأشرطة الفيديو، والكابلات التوصيلية، وخطوط النقل، والتلفزيونات، والشاشات، والطابعات، والأقمار الاصطناعية والوسائل المتعددة الوظائف. تمثّل أميركا مختبر هذه الثورة العالمية تقودنا نحو تدفق إمكانيات الاختيار والتنوع وتطبع زمننا بالفردية المتدفقة بالحرية أيضاً تتحول بدورها إلى شكل من أشكال العبودية أو انتفاء الحرية.

قد يؤدي هذا التنوع المادي، إلى ثقافة متشابهة فكرياً وروحياً، لكنّها ستؤدي إلى تنوّع في الفنون والتعليم واللغات والثقافات الشعبية أو ما يؤدي إلى تفكيك الثقافة، حتى إننا لن نجد طالبَين يتابعان البرنامج التعليمي نفسه ما يؤدّي الى تفكيك المجتمعات وتشتت الأفكار. وقد تسقط الحرية في اللاحرية أو ما يمكن تسميته بـِ"صدمة المستقبل"، ولهذا كان لبنان سبّاقاً في نكبة الصحافة. يموت الكتاب أيضاً، بعدما أصبح التخزين ضوئياً، وتراجع تكديس المجلات والصحف والكتب في المكاتب والمدارس والجامعات، ووضع في تصرّف البشر مكتبات جوّالة زهيدة الأثمان وفي متناول الجميع.

يكمن الفارق الجوهري بين الصحافة الإلكترونيّة والعاديّة في أن المعلومات المنشورة على الانترنت قابلة بصورة مستمرة للمراجعة والحفظ، بينما الصحيفة ثابتة ومهددة بالقدم. إنها معلومات دائمة الحركة والانسياب وخاضعة بسهولة للتبدل والتجدد والإلغاء بما يطاول القراءة والكتابة.

تعاني أجيال القرّاء، بالفعل، من قراءة صحيفة على الشاشة كما هي على الورق بسبب حجمها وانعكاسات حبيبات الضوء عليها. ويشكو الجميع من غياب لذّة التسكّع في الصحافة الالكترونية إذ يمكن لقارئ الصحيفة المكتوبة خلال القراءة أن يباغته موضوع أو عنوان أو صورة لا تهمه أساساً فيقفز فوقها في تحقيق لذّة "التسكع" أو التصفح وهي متعة يُحرم منها في القراءة على الشاشة. يمكنه بلمح البصر، وفقاً لمقولة "التسكّع" الانتقال من صفحة إلى أخرى طرداً أو عكساً، والاحتفاظ بالانتباه

والتقابل بين صفحتين، وقلب الصفحة، والذهاب إلى أخرى، فالعودة إلى صفحة سابقة.. وهي أمور لا توفّرها الشاشة الإلكترونيّة.

لا يمكنه أن يقرأ ويستلقي في الوقت نفسه، أو يدخل الأمكنة الضيقة، أو يرشف القهوة في أثناء التصفح، ويرمي بالصحيفة بعد قراءتها، أو يلفّها تحت إبطه إلى المقهى أو إلى البحر. فالصحافة مادة طيّعة، محمولة، منقولة، وقد لا تتناسب مع أعباء الشاشة مهما صغر حجمها، وهي لم تتناسب حتى الآن بالشكل المرضي مع المتقدمين في الأعمار.

كلّ هذه المعوقات سطحية تنسحب بحكم العادات الجديدة التي يكتسبها البشر وتجعل العالم ساحة لا حدود لها إلاّ لمن يعرف كيفية بسط حدود وطنه فيها كضرورة حضارية عالمية لا كبضاعة قابلة معروضة للإيجارة أو للبيع أو والشراء.