لا يجب ان تمر مسألة "التوافق" على اقامة مناطق حظر جوي فوق مناطق محددة في سوريا، مرور الكرام لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون. فمن حيث الشكل، لم يأت هذا الاقتراح من مكان مجهول، بل من قلب روسيا وفي مؤتمر صحافي مشترك بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب اردوغان، وتبعه اعلان عن زيارة بوتين الى تركيا في 22 من الشهر الحالي.

أما من حيث المضمون، فقد اتى ليعبّر عن عمل جدّي اكثر من السابق، للوصول الى تفاهم أعمق عبر المحادثات السلميّة لانهاء الازمة السوريّة. لم يكن بوتين سابقاً في وارد الموافقة على مثل هذا الاقتراح، لكن العمليات الميدانيّة والتحوّل في الموقف السياسي التركي والاميركي اخيراً، كلها عوامل صبّت في خانة اعادة النظر بقراره. ومن الناحية العمليّة، من شأن هذا القرار، اذا ما ابصر النور، ان يكون متزامناً مع تفاهمات سياسية نسجت عبر اتصالات كثيفة بين انقرة وموسكو وواشنطن وطهران للتخفيف من حدة المواجهات العسكرية اولاً، والتضييق على المنظمات الارهابية ثانياً، وبدء المرحلة الرسمية لاعادة الامور في سوريا الى الهدوء ثالثاً.

وفي حال تحقق هذا الامر، وفق ما هو متوقع، يمكن عندها القول ان المسار السياسي للحل بدأ بشكل رسمي، وبالتالي ستغيب اخبار الضربات العسكرية والمواجهات بين السوريين (ما خلا استهداف المنظمات الارهابية)، والاهم ان حوادث الاحتكاك بين الدول المعنية ستتقلص ايضاً بحيث ستغيب الضربات التي تأتي عن طريق الخطأ وهي تشكل سبباً اساسياً لاشعال فتيل التوتر بين تركيا وروسيا واميركا، كما من شأنها نزع ذريعة اسرائيل توجيه ضربات جوية الى المناطق السورية. ومن المؤكد ان حماية قرار مناطق الحظر سيقع على الجانب الروسي بالدرجة الاولى الذي يتمتع بأنظمة دفاع جوية يتقاتل العالم على شرائها نظراً لفاعليتها وقدراتها، كما سيتم تفادي ايضاً اي شرارة بين حزب الله واسرائيل قد يمكن اتخاذها سبباً لشن عدوان على لبنان.

من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، سيشكل هذا القرار باباً للبدء باجراءات اقامة مخيمات للنازحين السوريين الذين انتقلوا الى الدول المجاورة ومنها لبنان، ولكن الافضلية ستكون بالطبع لتركيا التي ستشهد اكبر موجة عودة للنازحين من اراضيها. وستبدأ العروض من مختلف الشركات العالمية لاعادة اعمار سوريا، وفي مقدمها من روسيا وتركيا وايران والولايات المتحدة، فيما ستكون الشركات الاوروبية متأخّرة بعض الشيء بطبيعة الحال. وهذا الامر سيترجم استقراراً في المنطقة التي ستتخلص شيئاً فشيئاً من قبضة الارهابيين الذين سيطروا على اجزاء كبيرة من دول عربية، ونجحوا في تلويث العالم اجمع بإرهابهم.

انها صورة متفائلة حتماً، وقد يرى البعض انها تحمل تضخيماً لما ستكون عليه صورة المنطقة، ولكنها الصورة المستقبلية الموعود بها الشرق الاوسط، والتي ليس من المفترض ان تتحقق في وقت قريب جداً، انما بعد سنوات وهو امر منطقي اذا ما اخذنا في الاعتبار ان الحرب في سوريا لوحدها استمرت نحو سبع سنوات (ولا تزال قائمة)، فمن الطبيعي ان تستغرق اعادة الامور الى مجراها اكثر من تلك المدة. ولكن كل مسيرة تبدأ بخطوة، والرهان حالياً على ان تتمثل هذه الخطوة بقرار اقامة مناطق حظر جوي التي تشترط وقف القتال على الارض فيها، وتعزيز المفاوضات بين السوريين الموالين والمعارضين، وبداية تراجع الدعم الذي تقدمه دول محددة للمنظمات الارهابية اكان على الصعيد المادي او على الصعيد اللوجستي العسكري.

وحين يتم الحديث عن تسوية في سوريا، لا يمكن الحديث عن اضطرابات في المنطقة، وبالتالي من شأن الهدوء على الجبهة السورية ان ينعكس هدوءاً مماثلاً على جبهات اخرى في العراق وليبيا وغيرها... انها ليست نبوءة او قراءة في الغيب، بل نتيجة حتمية لكل صراع عسكري في اي منطقة في العالم.