لم يكن مستغرَبًا بالنسبة لكثيرين أن يعمد خصوم وزير الخارجية ​جبران باسيل​، وفي مقدّمهم تيار "المردة" بشخص رئيسه ​سليمان فرنجية​، إلى "استغلال" تصريحه اللاحق ل​قمة الرياض​ عن "عدم علمه" بالبيان الصادر عنها، للتصويب عليه وصولاً لحدّ "التهكّم" منه، على اعتبار أنّ صدور بيانٍ ختاميّ عن أيّ قمّةٍ أمرٌ بديهيّ وأكثر.

إلا أنّ الأمر المفاجئ في المقابل، والذي استغربه كثيرون، كان أن يدخل الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله على خطّ هذه "المشادة"، ليثني على موقف الوزير باسيل، ويصفه بـ"الصادق والشجاع والمسؤول" في آن، ما وضع الكثير من "الشامتين" في موقعٍ "حَرِج" لا يحسدهم عليه أحد.

فما الذي دفع السيد نصرالله إلى الإدلاء بما أدلى به؟ وهل قرّر فعلاً أن يصطفّ إلى جانب باسيل ضدّ فرنجية، بعدما حيّد نفسه طويلاً عن "حربهما"؟.

"المردة" لم يتوقّعها...

في الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة، تفهّم رئيس تيار "المردة" النائب سليمان فرنجية، مُكرَهًا أو بطلاً، موقف "حزب الله" الذي لم يتعامل بجدّية مع ترشيحه للرئاسة من قبل رئيس تيار "المستقبل" ​سعد الحريري​، وبقي مصراً على أنّ مرشّحه الوحيد للرئاسة هو العماد ميشال عون، ملتزمًا بوعدٍ كان قد قدّمه إلى "الجنرال" بالوقوف إلى جانبه حتى اللحظة الأخيرة.

تفهّم فرنجية الأمر، وهو يدرك أنّ موقف الحزب لم يكن سهلاً، وأنّه فعل ما فعله من باب الوفاء أولاً وأخيرًا. ولذلك، فهو حرص على إبقاء علاقته بـ"حزب الله" على متانتها، بعكس علاقته بـ"التيار الوطني الحر" التي تحوّلت تلقائيًا من تحالفٍ استراتيجيّ إلى خصومةٍ مبدئيّة، بل في أحيانٍ كثيرة، إلى ما يشبه العداوة.

ومن باب "المعارضة الشرسة"، كان تعليق فرنجية الأخير على موقف الوزير باسيل بعيد قمّة الرياض، الذي اكتفى فيه بعبارة "شاهد ما شافش حاجة"، والتي لم يتردّد اثنان في اعتبارها موجّهة لباسيل مباشرةً. وإذا بالمفاجأة بأن يعطي السيد نصرالله "الحقّ" لباسيل في هذه القضيّة، ما شكّل ضربةً مباشرةً لفرنجية، الذي لا يبدو أنّ قاعدته الشعبية تفهّمت الموقف للوهلة الأولى كما فعلت إبان انتخابات الرئاسة، فبدأت تصوّب السهام نحو الأمين العام لـ"حزب الله" شخصياً، الأمر الذي برز بشكلٍ خاص عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

حساباتٌ أبعد...

ولكن، هل كان كلام السيد نصرالله مصوَّبًا فعلاً باتجاه فرنجية و"المردة"؟

قد يكون من المبالغة بمكان الوصول إلى مثل هذا الاستنتاج، الذي يفتقد إلى الواقعيّة السياسيّة من جهة، وإلى الحدّ الأدنى من المنطق من جهةٍ ثانية. فإذا كان صحيحًا أنّ "حزب الله" عجز عن التقريب بين حليفيه، "الوطني الحر" و"المردة"، وإعادة الودّ بينهما ولو بالحدّ الأدنى، فإنّه في المقابل لا يمكن أن يجد أنّ اصطفافه إلى جانب أحدهما ضدّ الآخر يؤمّن مصلحةً له بأيّ شكلٍ من الأشكال، وهو لذلك يحرص على إبقاء علاقته بالجانبين بالوتيرة نفسها.

أما الحسابات التي انطلق منها السيد نصرالله في خطابه الأخير فهي، بطبيعة الحال، أبعد بكثير من الحسابات الداخلية الضيّقة المرتبطة بالخلاف الآني بين "الوطني الحر" و"المردة"، وهي متّصلة اتصالاً وثيقاً تحديداً بوجود رغبة بوجوب تحييد ما حصل في الرياض عن الساحة اللبنانية، التي هي أحوج ما تكون إلى التهدئة لا التفجير في هذه المرحلة، التي تداهمها فيها الاستحقاقات المفصليّة، ولا سيما منها تلك المرتبطة بقانون الانتخاب.

ويبدو منطقيًا بهذا المعنى أن يكون السيد نصرالله أراد التأكيد على أنّ الموقف اللبناني في القمّة كان مسؤولاً، وأنّ الحزب راضٍ عنه ولاتحفّظ لديه عليه على الإطلاق، لأنّه بذلك يمنع أيّ انعكاساتٍ سلبيّة للقمّة على لبنان، كان كثيرون قد توقّعوها قبيل الخطاب. ولا شكّ أنّه يفصل في هذا السياق بين تقييمه لما حصل في الرياض، والذي عبّر عنه خير تعبير، انسجامًا مع قناعاته المعروفة، وبين تقييمه للموقف اللبناني في القمّة، خصوصًا بعدما كُتِب الكثير عنه في الأيام القليلة الماضية، وصولاً لحدّ تصويره وكأنّه التحق بالمحور المعادي لإيران، ومن خلفها للحزب.

لتحصين العلاقة!

رغم ذلك، لا يمكن القول أنّ الحسابات الداخلية كانت غائبة بشكلٍ تامّ عن موقف الأمين العام لـ"حزب الله"، الذي لا شكّ بدأ يشعر بضرورة تحصين العلاقة مع "التيار الوطني الحر" بعدما تعرّضت في الآونة الأخيرة للعديد من الهزّات على أكثر من مستوى، بعكس العلاقة مع "المردة" التي تبقى محصّنة ومستقرّة حتى إشعارٍ آخر.

ولعلّ الأخذ والردّ الذي يحصل بين الجانبين على خلفيّة قانون الانتخاب خير دليلٍ على الدرك الذي وصلت إليه العلاقة، خصوصًا بعدما نجح بعض الأفرقاء في وضع "الحزب" و"التيار" وجهًا لوجه لتصوير الصراع على القانون وكأنّه بينهما بالدرجة الأولى، عبر القول أنّ "حزب الله" يصرّ على "النسبية الكاملة"، ويرفض التجاوب مع "الضوابط" التي يطرحها "التيار"، كما أنّه يصطفّ إلى جانب رئيس المجلس النيابي نبيه بري ويرفض "الضغط" عليه، ولو من باب "المَونة". وما زاد الطين بلة بين الجانبين كان الموقف الواضح والأشبه بــ"الفيتو" الذي وضعه السيد نصرالله على فكرة التصويت في مجلس الوزراء على قوانين الانتخاب، وهي الفكرة التي لا يزال يتمسّك بها "التيار" كحلٍ شبه وحيد للأزمة الحاصلة، في حال عدم التوصّل إلى إجماعٍ على أيّ صيغةٍ انتخابيّة، وهو المرجَّح.

وبهذا المعنى، يمكن القول أنّ السيد نصرالله نجح في إعادة تحريك العلاقة بالاتّجاه السليم، ولعلّ الحفاوة التي استقبل بها جمهور "التيار الوطني الحر" هذا الخطاب أتت أكثر من معبّرة، علمًا أنّ بعض "العونيين" ذهب لحدّ تصوير كلام الأمين العام لـ"حزب الله" وكأنّه "انتصار"، لم يتأخّر في توظيفه لـ"الثأر" بعد كلّ السّهام التي وُجّهت نحوهم على امتداد الأسبوع.

التفاصيل "على جنب"

"دعوا التفاصيل اللبنانية على جنب". هذا ما قاله الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله قبل إطلاق موقفه ممّا حصل في قمّة الرياض، وطريقة تعاطي الوزير جبران باسيل معه.

هي دعوة استباقية أراد السيد نصرالله أن يوجّهها عن سابق تصوّر وتصميم لمن يعنيهم الأمر، للقول أنّ التحليلات التي تعزف على وتر العلاقة مع "المردة" مردودة، خصوصًا أنّ الحزب لا يزال يضع عدم تهميش "المردة" في أيّ صيغةٍ انتخابيّة أولويّة يرفض أن يحيد عنها، وفي ذلك أكثر من عبرة لمن يريد أن يعتبر...