إذا كانت لقاءات أستانة الكازاخية الخمسة السابقة تندرج في سياق سعي سورية وحلفائها لفرض مفهومها للتهدئة وتثبيت قاعدة أساسية تسبق التسوية السياسية للأزمة، وهي أولوية محاربة القوى المصنفة إرهابا، والتي تشمل تنظيمي داعش والنصرة وكلّ من يدور في فلكهما، والعمل على الفصل بين هذه التنظيمات الارهابية والجماعات المسلحة التي شاركت في اجتماعات أستانة ووضع الخرائط التي تحدّد أماكن تواجدها، والتأكيد على احترام سيادة واستقلال ووحدة سورية وسلامة أراضيها، فإنّ اجتماع أستانة رقم ستة جاء ليضع موضع التنفيذ كلّ هذه البنود، ويحدّد الآليات ومسؤوليات الدول الضامنة لعملية تطبيق ما اتفق عليه، وهذه الدول هي ​روسيا​ و​إيران​ و​تركيا​.

واذا كان في السابق لم يتمّ الالتزام بتنفيذ ما يتفق عليه، لأنّ الحكم التركي كان لا يزال لديه رهانات وقدرة على المناورة، فمن جهة كانت الكثير من المناطق السورية لا تزال تحت سيطرة التنظيمات الإرهابية وتحتاج الى جهد ووقت لتحريرها، وهو ما استدعى القبول بالتهدئة من قبل سورية وحلفائها بغية توظيف الطاقات والجهود لتحرير المناطق المذكورة، ومن جهة ثانية كانت تركيا تراهن على تبدّل في الموقف الأميركي من العلاقة مع ​الأكراد​ في شمال سورية لصالح دعم موقفها من مطالبهم بإقامة كونفدرالية ولم تكن تريد التعاون مع روسيا وإيران، أما اليوم وبعد اتضاح انحياز الموقف الأميركي إلى جانب الأكراد من جهة، والإنجاز الهام الذي تحقق بفك الحصار عن ​دير الزور​ وتوجيه ضربة قوية ل​تنظيم داعش​ وتبيّن أنّ انتصار سورية بات محسوماً ولم يعد بعيداً من جهة ثانية، لم يعد أمام النظام التركي هامش كبير من المناورة للتهرّب والمماطلة في العمل على تنفيذ بنود الاتفاق لناحية إلزام الجماعات المسلحة التابعة له به. ف​الجيش السوري​ والحلفاء أصبحت لديهم القدرات الكافية لحسم المعركة عسكرياً في ​محافظة إدلب​، بعد أن حرّروا المساحات الشاسعة من سيطرة داعش، وبالتالي بات بمقدورهم إعطاء الأولوية لتحرير محافظة إدلب ولن يكون بمقدور تركيا عندها التورّط عسكرياً لحماية الجماعات المسلحة المرتبطة بها لأنّ ذلك سيقود إلى التصادم مع الجيش السوري وحلفائه الروس والإيرانيين من ناحية، وخسارة التعاون معهم لتجنّب الخطر الكردي الذي يهدّد وحدة تركيا من ناحية ثانية.

من هنا فإنّ موازين القوى في الميدان التي أصبحت بالكامل في مصلحة الدولة الوطنية السورية، والتي تؤشر إلى اقترابها من لحظة إلحاق الهزيمة الكاملة بتنظيم داعش الإرهابي وبالتالي انتهاء مرحلة تأجيل معركة الحسم مع ​جبهة النصرة​ وأخواتها في محافظة إدلب وغيرها من المناطق، إنّ هذه الموازين هي التي تجعل حكم الرئيس رجب أردوغان أمام استحقاق التعاون مكرهاً لتجنّب الخطر الكردي الذي تنامى بفعل تدخله بشأن سورية الداخلي ودعمه وتصديره للقوى الإرهابية إلى سورية رهاناً على استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية الغابرة، وهو الرهان الذي سقط وتحطم مع تحرير الأحياء الشرقية من حلب.

لهذا فإنّ ما نتج أمس عن اجتماع أستانة جاء هذه المرة مصحوباً بأجواء إيجابية عكسها رئيس الوفد السوري د. ​بشار الجعفري​، والاتفاق على نشر قوات من الدول الضامنة في محافظة إدلب وإنشاء مركز مشترك لمراقبة تنفيذ الاتفاق الذي ينصّ على الفصل بين الجماعات المسلحة الموقعة على الاتفاق والتنظيمات الإرهابية والعمل على محاربتها والقضاء عليها كمقدّمة لولوج العملية السياسية. وهو أمر طالما كانت قد أكدت عليه الدولة الوطنية السورية، ما يعني انتصار واضح لوجهة نظرها التي ركزت منذ بداية اأزمة على أولوية محاربة القوى الإرهابية كمدخل إلزامي للحلّ السياسي المستند إلى احترام سيادة واستقلال ووحدة سورية، حسبما جاء في نص الاتفاق.

وهكذا يتبيّن أنّ الانتصارات التي حققها الجيش السوري والحلفاء على جبهات القتال أدّت الى انتصار موقف سورية على طاولة أستانة، وسوف تؤدّي لاحقاً الى انتصار منظورها السياسي لحلّ الأزمة. انطلاقاً من قاعدة من ينتصر عسكرياً ينتصر سياسياً.