تخلَّى العالم عن القضية الكردية. صوّت مجلس الأمن على تأجيل الإستفتاء في ​إقليم كردستان​. استقلال الإقليم حلم يحلم به رئيسه ​مسعود البارزاني​ ومعه بعض الكرد.

نعم بعضهم. كُثر من الكرد المشتتين في العالم (في أكثر من 20 دولة بما فيها ​أميركا​ وكندا) يعتبرون أنّ القضية الكردية ليست اليوم إِلَّا ورقة ضغط بأيدي بعض الحكومات. لا شكّ أنّ الحالة الجيوسياسية والاقتصادية لأماكن تواجد الكرد في ​الشرق الأوسط​ والبعد الجغرافي لدول التشتيت في المهجر، كما أوضاعهم الإجتماعية وحتى التعدديّة اللغويّة لهم (حوالي 6 لغات كردية)، كلها عوامل تساهم في الحؤول دون قيام "​الدولة الكردية​".

لكن، ​اسرائيل​ لم تتخلَّ عن دعم هذه القضية.

هي التي سببت بشتات ال​فلسطين​يين. هي التي دمّمت قضية فلسطين، تدعم قضية الكرد. في حزيران من العام 2014 دُشِّن خط انابيب نفط جديد من كردستان يصل بميناء عسقلان الاسرائيلي، فبدأت شحنات النفط بينهما تتوالى. الأهداف ليست فقط اقتصادية لماذا؟ الجواب في ​العراق​ .

ماذا يحصل في كردستان العراق؟

أوّلاً: ذهب مسعود البارزاني بعيدا في التعويل على الدعم والتشجيع الإسرائيلي متوهما الكثير من الآمال.

رئيس الوزراء الإسرائيلي ​بنيامين نتانياهو​ أعلن في العام 2014 وبعدها في العام 2016 صراحة تأييده لانفصال كردستان عن دولة العراق وقيام دولة كردية مستقلة. لم يكن ذلك مفاجئا، فاسرائيل تتابع منذ قيام كيانها باتباع سياسة تحالف الأطراف في المنطقة. لكنها توسعت اليوم بفعل التخاذل العربي الى تحالف مع الدول بعد ان شهدنا انبطاحا عربيا نحوها. بالنسبة لاسرائيل، إنّ قضية كردستان ستشعل نزاعا اقليميا وربما حروبا. سوريا و​ايران​ وأيضا ​تركيا​ لن يكونوا بمنأى عنها. قضية قد تضعف دول الممانعة. بارزاني لا يرى أو لا يأبه لذلك. غاب عن باله واسرائيل مسألة تبدّل الخطط في الشرق الأوسط بعد انهزام مشروع التقسيم في سوريا.

ثانياً: يصدّق مسعود بارزاني أوهامه أن أميركا تدعم استقلال إقليمه. تماما كما فعل ​صدام حسين​ عند اجتياحه الكويت. فدفع صدام حسين الثمن غالياً.

في كانون الثاني من العام 2016 استقبل مسعود بارزاني وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر الذي قدم له ولقوات البيشمركة الشكر لقتالهم "داعش". اعتبر كارتر أن التنسيق بين بارزاني ورئيس الوزراء العراقي العبادي كان سببا للتنسيق بين قوات البيشمركة والجيش العراقي ما نتج عنه انتصارات هامة. إنها زيارة وتصريحات تركت لدى الرئيس بارزاني (الذي يهمه تمديد وتجديد عهده) آمالا كبيرة. قرّر استغلال الانتصار والدعم الأميركي واستثمارهما في القضية "الداخلية" للإقليم، بالسعي نحو استقلاله.

ثالثا: إنّ الإتفاق الروسي-الأميركي حول حل النزاع في سوريا الذي فرضه الميدان؛ كما الإتفاق الايراني-الروسي التي فرضته المصالح؛ لن يسمحا بإشعال فتيل جديد لتأجيج نزاع مسلح في سوريا أو العراق غير قتال الإرهابيين.

إن الوضع الجيوسياسي لإقليم كردستان يؤكد أن استقلاله سيدفع الى خطوة تمدّدية لنزع "الحسكة" عن ​الدولة السورية​ وضمّها للإقليم. طبعاً إنّ ​أكراد سوريا​ في تلك المنطقة لن يقفوا على الحياد لجهة مطالبهم الإنسانية وبالأخص انفصالهم عن الدولة السورية. في غياب أي دعم لهذا، فالانضمام الى كردستان سيكون مطلبا أساسيا عاجلا ما سيتحول إلى دمويا. إن هذا الوضع لن تسمح به الدولة السورية ولا الحكومة العراقية. وواضح أن المجتمع الدولي يرفضه لأن أي استقلال كردي يشير أنّ الرياح تتجه نحو قتال حربي .

رابعاً: يعتبر العدو الإسرائيلي أنّ قيام دولة على الأساس العرقي أو الإثني أو الطائفي في الشرق الأوسط؛ يمنحه الحق المطلق بالدولة اليهودية على سبيل القياس. سقط مشروع "الدولة الإسلامية" في العراق والشام الذي دعمته اسرائيل بصورة "داعش" واخواتها. خسرت اسرائيل. هي تعمل الآن على بديل لمشروعها التقسيمي؛ الدولة الكردية. ولكن، يفقد الطرفان بارزاني ونتانياهو أكثر فأكثر بصيرتهما تجاه السياسة الدولية وواقع تبدّل موازين القوى واختلاط المصالح الدولية.

كلُّ دولة رافضة للاستفتاء لديها اعتباراتها الخاصة المتعلقة بمصلحتها الوطنية. سواء تحت ذريعة خطورة "التوقيت" أو سوء "آلية" الإستفتاء أو "دقة" المرحلة... النتيجة واحدة:

لا أحد من الدول يريد قيام دولة كردية. ما التأجيل إِلَّا الى أجل غير مسمّى بعيد قد لا يأتي. وعلى الأرجح لن يأتي.

خامساً: طبعاً للكرد في العالم حقوق سياسية واقتصادية واجتماعية وإنسانية يجب أن تُمنح لهم ونحن نؤيدهم بذلك. وطبعاً، مفهوم العدالة الإجتماعية غير مطبّق تجاههم بالكامل في دول عدّة كتركيا مثلاً.

أمّا في سوريا، فالمناطق المتواجد فيها الكرد تستحق فعلا نظامَ لامركزية ادارية شاملة لتحقيق الإنماء التي تستحقه، لا سيما أنها من أغنى المناطق في الموارد الزراعية مثلا .

في ايران، الاندماج الاجتماعي يؤمن الاستقرار.

أما كردستان العراق فلا شك أن نظاما فدراليا قد يكون الأمثل في الوضع الحالي. إن قيام الدولة والاستقلال يحتاج إلى قادة أوعى وتوقيت دولي أفضل ومناخ قوة أكبر. فالتهور يضرّ بالقضية الكردية أكثر مما يفيدها.

سادساً: حق الشعوب بتقرير مصيرها مكرّس في القانون الدولي ولكن، لتقرير المصير شروط لا تتوفر في وضع الكرد في العالم من تركيا الى ايران الى سوريا والعراق وغيرها. فهذا حق لا يتحقق بطريقة أحادية .

عندما يقرّر مسعود بارزاني الاستفتاء والاستقلال غصباً عن إرادة الحكومة العراقية وعن إرادة حكومة الإقليم وعن الإرادة الدولية، فالمؤشرات إذاً تدل على الآتي :

أوّلاً: الرجل يحقق "الخلود" السياسي. وفي قراءة تحليلية لشخصيته يبدو أن الرجل يريد أن يبقى محط اهتمام دولي. إن طفولته اتسمت بعدم الاستقرار والترحال. وتزامنت مع ولادة جمهورية مهاباد الكردية عام 1964 التي عاشت عاما واحدا. تمّ تهجير عائلته من شمال العراق الى جنوبه وابتعد عن والده وعاش بجو عدم أمان دفعه الى تكوين شخصية وسواسية مهووسة.

يقول الباحثون النفسيون أن من يعاني من ألم نفسي حاد طويل مزمن في طفولته قد يتحول الى العدوانية تجاه الآخرين؛ ولاحقا تتحول هذه العدوانية الى الإفراط في التعلق الانتمائي (الديني او العرقي او القومي او الثقافي...) غالبا ما تتكوّن لهؤلاء شخصية تصلبية غير مرنة المواقف، تحمل عدوانية أو تزلفا لأجل البقاء والأمان. هذا ما كتبه الباحث النفسي هارولد لاسويل في كتابه: المرض النفسي والسياسة. ربما ينطبق ذلك على بارزاني .

ثانياً: يعرف الرجل أن الاستقلال لن يحصل. هو يناور. يلف انتباه العالم حوله. يتصلب في موقفه نحو الإستفتاء. يعرف أنه سيقبض ثمنه. لا يريد لولايته أن تنتهي. هو يريد السلطة ويسعى للتمديد للبرلمان. لن تحصل انتخابات في أربيل وفق ما يتبدّى .

ثالثا: يعرف بارازاني أن أي استقلال سيخلق حربا أهلية بين الكرد والتركمان والعرب في كركوك.

كركوك محافظة متنازع عليها مع الحكومة العراقية. هي تنتج 150 الف برميل نفط يوميا من أصل 600 ألف برميل ينتجه الإقليم الكردستاني. فهل أمام مصلحته الخاصة يتغافل بارزاني عن مصلحة العراق وكردستان ويسلم كركوك إلى تركيا؟ لماذا؟ لأن التركمان في كركوك لن يقبلوا بحكم الكرد المطلق سيلجأون الى طلب "العدالة الإجتماعية". تركيا لن تتخلى عنهم. وهي أصلا لا تريد استقلال كردستان لخوفها أيضا من أن يحرك ذلك الحركات الانفصالية على أراضيها لا سيما الكرد. وهنا قد يذهب الأمر إلى أبعد من الدعم الإقتصادي والسياسي للتركمان إلى الدعم اللوجستي الحربي. وها هي تغير بطائراتها الحربية عشية يوم الإستفتاء على الإقليم. إنها الحرب. رئيس وزراء تركيا بن علي يلدريم أعلن أن تركيا ستعاقب إقليم كردستان مهما كانت نتيجة الإستفتاء على الإستقلال. طبعاً، العقوبات الإقتصادية ستظهر تباعاً. ولكن، هل سيصمت العراق؟ أم أن بارزاني يشعل حربا عراقية -تركية بمباركة إسرائيلية؟ نعم، إنه يفعل عن علم أو جهل. وهما أخطر من بعضهما.

يبدو جلياً أن اسرائيل لا تريد للحرب في العراق أن تنتهي. قضية كردستان قضيتها. مسعود بارزاني سيدخل التاريخ. ان نجح وحصل الاستفتاء فهو أول من يقوم به. أما إن لم يحصل فهو ايضا سيدخل التاريخ؛ هو اول من أصر عليه. بين المصالح الخاصة والمصالح العامة أُرهِق العراق، الّذي يرزح تحت حرب بعد الأخرى. تشتّت الكرد كما الفلسطيينين والايزيديين والمسيحيين نتيجة خطة إفراغ هذا الشرق من أبناء حضاراته .

تقاتل الطوائف والمذاهب والعرقيات، نجحت به اسرائيل الى حد ما ولئن هي تفشل بأهدافها وحروبها. تماما كما ستفشل في كردستان. ولكن، الى متى سيبقى العدو يرسم مصير قضايانا والى متى سيبقى زمننا زمن "جنون الأنظمة"؟.