مع الاعلان عن الاطلالة التلفزيونية لرئيس الحكومة (المستقيل) ​سعد الحريري​، "استنفر" اللبنانيون بشكلٍ غير مسبوق. وتمامًا كما فعلوا منذ الاستقالة المثيرة للجدل للرجل، استبقوا المقابلة بإطلاق الأحكام المسبقة، فمن اقتنعوا بالاستقالة رغم كلّ الالتباس المحيط بها جزموا سلفاً أنّ الإطلالة ستدحض كلّ ما أشيع عن إقامةٍ جبرية. أما من اعتبروا الرجل محتجزًا، فاستبقوا أيضًا المقابلة بالتقليل من شأنها، لأنّها، بظروفها وصيغتها، لا تختلف عن خطاب الاستقالة، وبالتالي فإنّها لن تغيّر شيئًا في المعادلة.

لكنّ الحريري فاجأ الفريقين في آنٍ واحدٍ. في الشكل، أثبت مقولة أنّ خطباً ما حصل معه، فسعد الحريري الذي ظهر في المقابلة، بارتباكه وريبته وتلعثمه، لم يكن أبدًا سعد الحريري نفسه قبل يومٍ واحدٍ من الاستقالة، بل كاد يشبه سعد الحريري في بدايات مسيرته قبل اكتساب الحدّ الأدنى من الخبرة والمهارات. أما في المضمون، فقد فاجأ بهدوئه المتوجّسين، لأنّه لم يصعّد كما كان متوقّعًا بوجه "​حزب الله​" و​إيران​، بل بدا أقرب إلى التمهيد للعودة، ليس فقط إلى بيروت، بل حتى إلى رئاسة الحكومة و​التسوية الرئاسية​ الشهيرة، التي قيل أنّ استقالته دفنتها...

بين الشكل والمضمون...

رغم أنّ هذا النوع من المعادلات بات مملاً لكثرة استهلاكه، إلا أنّه يصحّ القول أنّ ما قبل مقابلة الحريري ليس كما بعده، إذ إنّها نسفت إلى حدّ كبير جوّ "التهويل" الذي سبقها، سواء من جانب حلفاء السعودية، الذين اعتقدوا أنّ الحريري سيكرّر ما قاله في خطاب الاستقالة، وسيترجمه بخطواتٍ تتفوّق على الاستقالة نفسها، أو من جانب خصومها، الذين ذهبوا لحدّ تشبيه المقابلة قبل حدوثها بالمقابلات مع المخطوفين والأسرى، الذين يُكرَهون على قول ما يخالف قناعاتهم، وبالتالي لا يعكس الحقيقة، وهو ما تُرجِم بمقاطعة معظم وسائل الإعلام المرئيّة للمقابلة وعدم نقلها على الهواء مباشرةً.

إلا أنّ المقابلة أتت مفاجئة للجميع، شكلاً ومضمونًا. فمن حيث الشكل أولاً، وعلى الرغم من أنّ الحريري أصرّ على أنّه حُرّ وغير مقيَّد، مؤكّدًا متانة علاقته بالقيادة السعودية الحاليّة ممثّلة بوليّ العهد محمد بن سلمان، غير أنّ مقارنة بسيطة بين هذه الإطلالة وإطلالاته السابقة لاستقالته، سواء في الخطابات أو في المقابلات، تُظهِر أنّ الرجل لم يكن أبدًا في أحسن حالاته، هو الذي قال أنّه في "مرحلة تأمّل". ومع أنّ الرجل حاول إظهار ارتياحٍ مفتعَل في التفاعل مع الأسئلة التي وُجّهت له، إلا أنّه، إضافة لارتباكه وقلقه الواضحين، أبدى امتعاضًا من بعض الأسئلة، وكثرة مقاطعته من قبل محاورته، بل إنّه أراد إنهاء المقابلة في وقتٍ معيّن، مقراً بأنّه "تعب"، وهو ما لم يفعله في أيّ من إطلالاته السابقة، والتي كان بعضها يمتدّ لأكثر من ساعتين متواصلتين. ولعلّ بعض التفاصيل التي أحاطت باللقاء زادت الغموض غموضًا، سواء لجهة الفريق التقني "السعودي" الذي أشرف على المقابلة، أو الأخطاء الإخراجية التي حصلت، فضلاً عن كون اللقاء رُتّب على عجل، بل إنّ موعده بقي متأرجحًا حتى اللحظة الأخيرة، ما أثار الكثير من علامات الاستفهام.

أما من حيث المضمون، فإنّ الهدوء الذي اتسم به اللقاء بشكلٍ عام بدا بدوره مريباً، خصوصًا أنّ حلفاء الحريري كما خصومه كانوا يعدّون العدّة لحلقةٍ تصعيديّةٍ بالكامل، فإذا بالنتيجة تأتي معاكسة، لتبدو مواقف الحريري متناقضة إلى حدّ بعيد مع خطاب الاستقالة الشهير، الذي وصل فيه الحريري لحدّ تبنّي خطاب "قطع الأيادي"، والذي برّره بالقول أنّه أراد إحداث "صدمة إيجابية". وإذا كان البعض حاول الفصل بين متطلبات الخطاب والمقابلة للايحاء وكأنّ المضمون واحد، فإنّ حديثه المستجدّ فُهِم وكأنّه توطئة لطيّ الصفحة، وبالتالي تمهيد للعودة، علمًا أنّ الرجل أرسل أكثر من إشارة في هذا الاتجاه، خصوصًا حين أعلن أنّه مستعدّ لعودةٍ مشروطة عن استقالته، ولم يكن هذا الشرط انسحاب "حزب الله" من حكومته مثلاً، بل بكلّ بساطة، العودة ل​سياسة النأي بالنفس​ وعدم الانخراط في المحاور الإقليمية، لا أكثر ولا أقلّ.

المَخرَج قيد البحث

تمامًا كما حين قدّم استقالته، كان عنصر المفاجأة حاضرًا إذاً في الإطلالة المتلفزة للحريري، إلا أنّه أتى مضادًا هذه المرّة، فبدل أن يوحي بالانفجار، ويبعث على القلق من الآتي، أوحى بالانفراج، ولو أنّه انفراجٌ يبقى حذرًا بانتظار عودة الرجل، خصوصًا أنّه حين اتصل برئيس الجمهورية في يوم الاستقالة، أبلغه أنّه عائدٌ خلال يومين أو ثلاثة، إلا أنّ شيئاً من ذلك لم يحصل.

وبانتظار اتضاح الأمور وجلاء الحقيقة، خصوصًا أنّ الحريري نفسه تحدّث عن "أسرار" سيقوم ببحثها مع رئيس الجمهورية حين يلتقيه، فإنّ المقابلة شكّلت، بالنسبة لكثيرين، "نقطة الانطلاق" نحو البحث عن مَخرَج ينهي الأزمة التي أحدثتها استقالته، كونها لم تحقّق الغايات المرجوّة منها، بالنظر إلى تعاطي القوى اللبنانية، الخصمة للحريري قبل الحليفة معه، الواعي والمسؤول معها. وعلى العكس من ذلك، هناك من يقول أنّ هذه المقابلة أثبتت أنّ الاستقالة بحدّ ذاتها تحوّلت إلى "عبء ثقيل" بالنسبة لمن دفعوا إليها قبل غيرهم، خصوصًا أنّ المقاربة اللبنانية الهادئة والمتفهّمة لها، سواء من الجانب الرسمي أو حتى من جانب "حزب الله"، أفرغتها من مضمونها وأهدافها، فضلاً عن أنّ "تدويل" الأزمة، وتصدّر لغز "اختفاء" الحريري أو "احتجازه بالقوة" من قبل السلطات السعودية عناوين الصحافة العالمية، ما أدّى لحملة ضغط دولية على المملكة يتوقّع أن تتصاعد في الأيام القليلة المقبلة ما لم يتمّ العمل على احتوائها، وبالسرعة اللازمة.

كلّ هذه العوامل دفعت إلى البدء بالبحث عن المَخارج الممكنة التي من شأنها حفظ ماء وجه الرجل ورعاته الإقليميّين بشكلٍ أو بآخر، حتى لا تظهر العودة وكأنّها تراجعٌ، أو انقلابٌ على الانقلاب، وفي هذا السياق، ثمّة أفكار كثيرة تُطرَح من بينها إطلاق طاولة حوار جديدة، وهو ما ألمح إليه الحريري نفسه حين تحدّث عن دور يمكن أن يلعبه الرئيس ميشال عون، بعد أن فشل الحوار بين "المستقبل" و"حزب الله" في تحقيق الخرق المرجوّ، أو تجديد التسوية الرئاسية وفق أسُسٍ جديدة بالشكل عنوانها العودة إلى النأي بالنفس. ولكن بين كلّ هذه الأفكار، ما طُرح منها وما لا يزال يُطبَخ في الكواليس، تبقى الثابتة الوحيدة أنّ الحريري باقٍ، سواء كرئيس حكومة مكلّف أو رئيس حكومة تصريف أعمال، حتى موعد الانتخابات النيابية، إن جرت في موعدها كما أكّد الحريري في مقابلته التلفزيونية.

ورقته احترقت؟!

أكّد الحريري المؤكَّد، لجهة الغموض الذي يكتنف وضعه في السعودية، لكنّه فتح في الوقت نفسه ثغرةً في الجدار، ما أوحى بأنّ هناك من يسعى لترتيب الوضع، ولو بصورةٍ مؤقّتة.

لكن، أبعد من مصير الحريري غير المحتّم ومواقفه التهدوية، يبقى السؤال الأكبر، هل يمكن للسعودية، التي ذهبت بعيدًا في رفع السقف في وجه "حزب الله"، وصولاً إلى الدعوة لتطييره، أن تتصرّف اليوم وكأنّ شيئاً لم يكن؟ وماذا لو صحّ ما يُحكى في الكواليس أنّ ورقة سعد الحريري احترقت سعوديًا، أعاد أم لم يعد؟!.