خلال ايام قليلة فقط، تمكن رئيس الحكومة ​سعد الحريري​، وعبر اعلانه استقالته من السعودية والبقاء فيها مع كل اللغط الذي احاط بالمسألة، من القيام بما لم يستطع احد القيام به منذ سنوات طويلة رغم كل التحفيز والدعوات والمحاولات، وهو اعادة الاعتبار الى الجنسية اللبنانيّة وفتح العين عليها من قبل المغتربين اللبنانيين في الخارج.

لقد كان رد الفعل الطبيعي لكل مغترب لبناني تتم مفاتحته بقضية تقديمه طلب الحصول على الجنسية اللبنانية، بأنه مرتاح الى الجنسية الاخرى التي يملكها منذ صغره، ولا حاجة له الى جنسية لبنانية لا تؤمّن له ما تؤمّنه الجنسية الاخرى اولاً، كما ان احداً لن يهتم به في لبنان اذا ما تعرض لمشاكل في اي دولة من دول العالم. ولكن هذا الواقع تغيّر منذ 5 تشرين الثاني الجاري، فبعد ساعات قليلة على اعلان الحريري استقالته الملتبسة والمفاجئة وعدم عودته او عدم القدرة على الاتصال به، بدأ لبنان تحركاً داخلياً وخارجياً على أعلى المستويات، ووقف للمرة الاولى في وجه المملكة العربية السعودية متحدياً اياها، وهو امر لم تعتده المملكة كما لم يعتده لبنان ايضاً واللبنانيون بطبيعة الحال.

صحيح ان المعني مباشرة بهذه الاتصالات هو شخص يتبوأ منصب رئيس الحكومة، ولكن واقع الحال يقول انه لبناني وان ما قامت به بيروت في ايام قليلة، نجح في الوصول الى الاهداف الموضوعة، وهي عدم تقييد تحرك الحريري وعائلته، فيما يبدو ان الاهداف السياسية لها حديث آخر وترتيب آخر سيتم بحثه في وقت قريب.

يتطلع اللبنانيون الى هذا الامر بعين الرضى، فالحريري يحمل اكثر من جنسية، وفي حين كانت السعودية تتحرك مع الحريري بصفته مواطناً سعودياً، كانت ​فرنسا​ خجولة بداية الامر، الى ان اقتحم لبنان المعترك وبدأ برفع الصوت عالياً للتحذير من ان الحريري يعيش وضعاً غير طبيعي في ​الرياض​. التحرك اللبناني ضَمن وقوف الاعلام العالمي معه، وحيال هذا الزخم لم يكن امام المسؤولين السياسيين سوى الانضمام الى المسألة، واخذ الفرنسي عندها على عاتقه ايجاد السبل الكفيلة بنزع الفتيل وايجاد مخرج يرضي الجميع.

وفي خضمّ هذا التحرك، كان لا بد من الوقوف عند الكلام الصادر عن المسؤولين اللبنانيين وعن وزير الخارجية ​جبران باسيل​، وهو كلام لم يكن يعنيه المسؤولون السابقون بل بقي في الاطار العام لجهة عدم القبول بالتعرض لسيادة لبنان والتدخل بشؤونه، والحفاظ على اللبنانيين وارتباط كرامتهم بكرامة الوطن...

اقلق هذا الكلام قسماً كبيراً من اللبنانيين، ولكنه فتح في المقابل اهتمام المغتربين على نتائج هذا التحرك، وما اذا سيكون له طائل ام انه مجرد صرخة عابرة قد لا يصل صداها الى حيث يجب، لكن التطورات الاخيرة اثبتت ان لبنان استطاع ان يكسر الصورة التي رسمت عنه في السابق والتي كانت تمنع المغتربين من طلب الجنسية وشكّلت حاجزاً بينهم وبين بلدهم الام.

من المبالغ القول ان هذه التجربة الفريدة ستكون كافية لتهافت اللبنانيين في دول العالم على طلب الجنسية اللبنانية، ولكن من المنصف القول ان صدى ما حصل بات يتردد في اروقة الجاليات في الخارج، وقد يكون الخطوة الاكبر التي ستكفل اعادة الكثيرين النظر بموقفهم من هذه الجنسية، وهم سيعمدون الى اخذ خطوة نحو الامام من شأنها ان تغيّر الصورة المرسومة سابقاً تمهيداً لاظهار صورة جديدة كلياً عن قيمة الهوية اللبنانية ومكانها في وجدان الذي يعيشون خارجه.

محنة قاسية واجهها لبنان في الايام الماضية، لم تنته تداعياتها بعد، ولكنها حملت دون شك حسنات كما انها حافلة بالسيئات، ولكن من بين الحسنات غير المحسوبة، كانت اعادة الاعتبار الى الهوية اللبنانية، فهل ستستمر هيبة هذه الهوية او انها ستضمحل بعد انتهاء الازمة؟.