نجَح "حزب اللّه" في رهانه على تأليف حكومة بمشاركة تيّار «المستقبل» تكون قادرة على وقف التفجيرات الإرهابيّة والتصدّي للمتطرفين، بحيث أدرَك متأخراً أنّه عاجز الى حدٍّ ما عن مواجهة التطرّف السنّي، وأنّ هذا التطرّف لا يمكن مواجهته إلّا بالاعتدال السنّي، وعلى هذا الأساس تراجع عن مبدأ إمساكه بمفاتيح السراي لإعادته الى "المستقبل" القادر وحده على لَجم هذا التطرّف والتصدّي له.

ممّا لا شكّ فيه أنّ "حزب الله" استطاع استثمار التنازلات السياسيّة التي أقدم عليها بوَقف التفجيرات التي أربكت قيادته بعدما أدخلت بيئته في مناخ من الخوف والذعر نتيجة الضربات المتتالية التي تلقّتها.

ومن هذا المنطلق، رأى الحزب إمكان أن يتقاطع مع تيار «المستقبل» على قاعدة عودة هذا الأخير الى السراي الحكومي مقابل تصدّيه للتيّارات المتطرفة، وبالتالي أراحَت هذه المقايضة الحزب أمنيّاً وأدَّت موضوعياً الى تراجع التوتر المذهبي الذي كان سائداً قبل التأليف.

وفي وقت يُعتبر اقتلاع الارهاب من جذوره مصلحة لـ»حزب الله»، هناك مصلحة استراتيجية في المقابل لتيار «المستقبل» ليعود الى اللحظة التي أُخرج فيها من السلطة بقوّة الأمر الواقع، فضلاً عن أنّ تنامي التيارات المتطرّفة وعسكرة الطائفة السنيّة كان سيؤدّي مع الوقت الى تغييب «التيّار الأزرق» عن المعادلة السياسيّة، واستطراداً الوطنيّة. وبالتالي، في معزل عن «حزب اللّه»، هناك مصلحة مباشرة لـ»المستقبل» لإعادة الطائفة الى اعتدالها حفاظاً على دوره السياسي داخل المعادلة الوطنيّة.

ولا شكّ في أنّ أيّ مراقب لا يمكن إلّا أن يلحظ كيف نفّذت الخطة الأمنيّة في طرابلس بسِحر ساحر، وذلك بإبعاد المقاتلين في جبل محسن وباب التبانة واستبعادهم في خطوة ضرورية وتمهيدية لتمكين الفريق السياسي في السلطة من ترييح شارعه وتنفيس الاحتقان الموجود واستعادة الثقة التي تزعزعت بفعل التراجعات والتسويات السابقة.

وفي هذا السياق، تقول مصادر مطلعة إنّ الرئيس سعد الحريري كان مضطراً، من أجل مواجهة التطرّف السنّي من جهة وترييح جمهوره من جهة أخرى، الى اختيار شخصيات من الصقور داخل الحكومة اللبنانيّة، وفي طليعتها وزير الداخلية نهاد المشنوق ووزير العدل أشرف ريفي.

وقد تمكن المشنوق فعلاً من وضع خطّة أمنيّة لطرابلس تكمن أهميّتها في الاتي:

- الحرص الكامل على التنسيق مع قيادة الجيش اللبناني واعتبار أنّ المؤسسات الأمنيّة تعمل بشكل متَّصل لا منفصل، أي أنّها لا تتنافس من أجل تسجيل نقاط بعضها على بعض كما كان يحصل أحياناً في السابق، إنّما تتكامل في ضبط الخروق الأمنيّة ووضع حدّ للفلتان المستشري.

- إتّخذ المشنوق قرارات حاسمة بعدم التهاون مع كلّ مَن تسوّل له نفسه مواجهة القوى الشرعيّة بحيث تعاطى مع هذه المسألة من منطلق دولتي لا مذهبي أو طائفي، فلم يميّز بين سنّي أو علوي، إنّما التمييز بالنسبة اليه كان بين مَن يلتزم سقف القانون وبين مَن يتجاوزه.

- وضع المشنوق كلّ رصيده السياسي لإنجاح الخطة الأمنيّة التي شكّلت التحدّي الأبرز بالنسبة اليه والى تيّار «المستقبل».

ولا شكّ في أنّ نجاح هذه الخطة وَفّر لأهل طرابلس الاستقرار الذي كان تحوّل بالنسبة اليهم حلماً، خصوصاً أنّ كلّ التقديرات كانت تستبعد تحييد طرابلس عن الأزمة السورية وكانت تربط استقرارها بإنهاء هذه الأزمة.

وفي هذا السياق أيضاً، نجح المشنوق في إعادة الهدوء الى كل المدن السنيّة التي تعرّضت لاستهداف ممنهَج من صيدا الى طرابلس وبينهما بيروت. وهذه الخطوة في حدّ ذاتها تعتبر انتصاراً لخطّ الاعتدال السنّي الذي حَيّد، في السياسة التي اعتمدها، هذه المدن عن تأثيرات الأزمة السورية وتداعياتها.

وعلمت «الجمهورية» أنّ المشنوق يحضّر ملفات عدّة في قضايا حسّاسة تنكَبّ الوزارة على درسها للخروج بحلول نهائية لهذه المشكلات المزمنة، وخصوصاً ملف السجون، بحيث هناك خطة متكاملة سيبدأ العمل بها قريباً وستضع حداً للاكتظاظ من جهة وتسريع المحاكمات من جهة أخرى.