يروي الإنجيليّون الأربعة حدث آلام وموت يسوع بكثير من الدّقّة التي لا تغيب عنها التفاصيل الصغيرة: فمن جهة يُقدّمون وصفاً خارجيّاً للأشخاص والأماكن والمؤسّسات الدينيّة والسياسية والقضائيّة والفئات الشعبية. ومن جهة أُخرى يصفون مراحل آلام المسيح في دقائقها: إلقاء القبض، والإذلال، والصفع، والتّفل، وامتهان كرامة السجين، والنُكران، والحكم الظالم، والجَلد، وإكليل الشوك الموضوع على رأسه، والهزء، ودرب الصليب، والصلب، والنزاع والموت. إنّه باختصار عالَم الفوضى غير المُرَتَّب ولا المُنَسَّق، العالَم الذي تَشَوَّه بفعل الخطيئة التي أظلمت العقل وشَوّشت الفكر، فثار الإنسان فيه على الله وقتله.

تُقدّم الرواية إذاً، صورة العالم بِما فيه من تناقضات بسبب خروج الإنسان عن خطّ النعمة والتآمر الرخيص على الله: لقد قتل الإنسان الله، والله صامت. دانه في محكمته البشرية بالجُرم، ولَم يفتَح فاه. صلبَه كما يُصلب اللصوص والقتلة، فأسلَم الرّوح غافراً. صورةٌ ليست غريبَةً عن عالَمنا الذي تحوَّل إلى دمويّ بسبب العصيان والتمرّد على الله. لذا فإنّ القرنين الماضي والحالي، يُعتبران الأكثر دمويّةً وفتكاً في التاريخ البشري: الأوّل قتل باسم موت الله والثاني يقتل باسم الله. وفي القرنين يموت الله في الأبرياء والمُعذّبين والفقراء والمحرومين من حقوقهم والأسرى والضعفاء؛ أسرى الأنظمة الماليّة والسياسية المتوحشّة. يموت في مرضى السرطان والسيدا والمتألّمين عامّةً، وفي كلِّ الذين يموتون على أبواب المُستشفيات. يموت في العجزة المُهمَلين، في المشردّين المَرميين على جوانب الطرقات وتحت الجسور، وفي المُدمنين على المخدّرات، في المَعنّفين من النساء والرجال والأطفال، وفي المُستغلّين في أجسادهم وكراماتهم. يموت في أطفال سوريا الذين يتحمَّلون وِزر حروب الحقد، وفي الذين يسقطون بسبب سوء استعمال اسمه وسوء معرفته. ويموت الله في الخطأة الذين ابتعدوا عن دفء الحبّ الوالدي وفقدوا الحياة الأبدية. كل آلام الإنسان بِسعَتِها وعُمقها، أصبحت السبب الحقيقي لألم الله وموته.

يموت الله، ليُشعرنا بأنّنا لسنا وحدنا في هذا الجحيم المُشتعل، بل هو معنا. ينزل بصليبه إلى أصل الشرّ الكامن في تاريخ الإنسان ونفوس البشر ليُحرّرهما من الشرّ. يقول أشعيا النبيّ: "إنّه لقد أخذ عاهاتنا وأوجاعنا"، ومن كَثرة ما مات من الحُبّ، انمّحت معالِمُ وجهه على الصليب فأصبَح بِلا صورة، بل "كَدودَةٍ خارِجةٍ من أرضٍ قاحِلَة، لا صُورَةَ لَهُ ولا بَهاء فَنَنظُرَ إليه... رَجُلَ أوجاعٍ، ومُتَمَرِّسٍ بِالعاهات، وَمِثلَ مَن يُستَرُ الوجهُ عنه، مُزدرىً، فلم نعبأ به...حَسِبناهُ ذا بَرَصٍ، مَضروباً من الله ومُذلّلا. جُرح لأجل مَعاصينا، وَسُحِق لأجل آثامنا...فألقى الربُّ عليه إِثمَ كُلّنا" (اش532-6).

يموت الله ليقول لنا بأنّنا لا نتألّم وحدنا بل يتألّم هو معنا ويسير معنا على الطرق المتعرّجة والقاسيّة ليفتدي حالتنا الساقطة ووضعنا الضعيف بالقيامة. لذا فإنّ موضوعنا اليوم ليس الموت بقدر ما هو القيامة؛ فحدث موت يسوع لا يمكن أن نقرأه إلاَّ في غايته، وغايته هي انتشال الإنسان من هذا البؤس الذي يعيش فيه ومنحه النعمة ليستيقظ على عالَم جديد تصنعه المحبّة التي قدّمت ذاتها على الصليب قربان فِداء.

اليوم، ونحنُ نُقبّل الصليب، فليقُل كُلُّ واحدٍ منّا: أنا أشكرك يا ربّ لأنّك مُتَّ من أجلي. أشكركَ لأنّك لَم تنسي في وقت نسيَني الجميع. أشكرك لأنّي أنا موضِع اهتمامٍ خاصٍّ منك ولأنّك لَم تبخل بذاتِك من أجلي. أشكرك يا ربّ لأنّك خلّصتني من الشرّ الساكن فيَّ وحرّرتني من خطيئتي، وفتحت أمامي طريق الملكوت. أشكرك لأنّني يوم تمرّدت عليك لَم تُعاقبني بل أظهرت لي فائق محبّتك ورحمتك وحنانك.

نعم يا ربّ، اليوم لَن ألطُمَ وجهي. لَن أبكي عليك بُكاء بنات أورشليم، مع أنّي اشعرُ برغبةٍ شديدة في البُكاء. لَن اسيرَ حافياً على طُرقات قريتي ومدينتي وبلدي، مع أنني أُرغبُ بِشدّة في أن ألبسَ لِباس البرِّ الجديد. لَن أَحزن حُزن فاقدي الرجاء، بل سأفرح. نعم، سأفرحُ اليومَ فرحاً عظيماً. سأستبق يوم قيامتك بابتسامةً عريضة، وأقول لكَ من كلِّ قلبي شُكراً... وأرددها مرّة أُخرى، لا بل مرّات لا تُحصى، شُكراً...شُكراً لك يا مُخلّصي المصلوب لأنّك خلّصتني. آمين