لا يقلّ الهمّ الرئاسي في قاموس بكركي ثقلاً عن همّ اضطهاد مسيحيي الشرق. فالوجعان يضربان في المكان نفسه، والصرح المنتظر لا يتوانى عن الربط بينهما لا على قاعدة “السبب-النتيجة” بل ركوناً الى خشيةٍ لا تفارق زوايا بكركي: تهجير الرئاسة الأولى بالتوازي مع مخطّط تهجير مسيحيي الشرق... ولكن شيئاً ما تغيّر في الصرح في الساعات القليلة الفائتة وراحت جرعات التفاؤل بانتخاب رئيسٍ في أيلول تجوب في الزوايا بصمت.

لا تخفي بكركي شعورها بالاضطهاد هي الأخرى على أكثر من صعيد. فهي التي لم تنفكّ تنادي منذ ما قبل الشغور باستلحاق الأمور وانتخاب رئيسٍ للبلاد تلافياً للشغور، لم تفلح كلّ أوراق ضغطها لا في تحاشي الفراغ ولا في سدّه بعدما أصبح أمراً واقعاً لا مناص منه ولا منافذ له أقله داخلياً. ذاك “اليأس الرئاسي” جعلها تضع أمانتها في يد السماء أولاً وعنق الفاتيكان ثانياً، ليس من باب قدرته التأثيرية على الزعماء اللبنانيين، بل عبر حركته الصامتة التي يقودها سفراؤه في دول القرار، وهي الحركة التي علمت “​صدى البلد​” أن الفاتيكان يعمل عليها منذ شهر نيسان الفائت وبدأ يكثفها عقب زيارة الراعي الأخيرة ولقائه الحبر الأعظم. هناك في تلك الكواليس همس الراعي على ما علمت “البلد” بكلامٍ واضح في أذني سفير إيران لدى الحاضرة لينقل رسالة الى بلاده مفادها: “نريد رئيسًا”، وهي الرسالة نفسها التي تولى البابا بنفسه نقلها الى السفير السعودي للضغط على المملكة في اتجاه تسهيل انتخاب رئيسٍ بتسويةٍ سعوديةٍ-إيرانية.

ثلاثية عناصر

يعوّل الصرح بشدّة على اللقاء السعودي-الإيراني القريب، لا بل يعتبره بمثابة ثمرة جهودٍ خاضها الصرح مع الفاتيكان بالتوازي ليُطرح الملف الرئاسي اللبناني كأولويةٍ على طاولة بحثهما. ورغم أن عيني الراعي شاخصة على ما ستثمره الجهود الفاتيكانية الصامتة وهو ما سيحصل عليه على شاكلة “محصّلة الحراك” بعد ساعاتٍ عندما يقصد الفاتيكان، إلا أنه يواكب بحذرٍ حراك عين التينة-المختارة علّه يكون مكملاً للجهود الدولية. وإذا كان لا بدّ من الحديث عن مؤشراتٍ تشرح تفاؤل بكركي وتسوّغه فلن تكون سوى ثلاثية عناصر لا تستثني هي الأخرى دوراً فاتيكانياً على خطّ بعبدا: أولاً لقاء لبطاركة الشرق في بكركي ينضمّ اليه سفراء الدول الخمس ويطرح هاجسي النزف المسيحي والرئاسة اللبنانية. ثانياً، حراكٌ للسفير البابوي في لبنان على أكثر من خطٍّ محلياً ودولياً وإبداء تفاؤله بانتخاب رئيس قريباً. وثالثاً، زيارتان جوهريتان للراعي الى الفاتيكان ثمّ واشنطن وفي صدارة أجندته شغوران.

لقاء سرّي

لن تستسلم بكركي، وهو ما أكده سيّدها أمس أمام جميع البطاركة والسفراء. أولئك السفراء الذين جمعهم أواخر حزيران وطالبهم بإيجاد حلٍّ لانتخاب رئيس للجمهورية بالضغط على دول القرار، وكان يقصد بذلك إيران والسعودية. وعلمت “صدى البلد” أن “الراعي طلب من السفير الروسي أن يضغط على إيران فيما طلب يومها من السفير الأميركي أن تمارس بلاده ضغطًا على السعودية لإنهاء الشغور”. هذا في لبنان، أما على خطّ الفاتيكان، فيوم حضر بطاركة الشرق مؤتمراً من أجل كنائس الشرق (نيسان الماضي) طلب الراعي من الفاتيكان أن يضغط على الدبلوماسيين الإيرانيين والسعوديين استباقاً للشغور، والتقى البطريرك آنذاك السفير الإيراني في روما ووضعه في جوّ الخصوصيّة اللبنانية. رحل الراعي مطمئناً الى أن الفاتيكان سيستكمل هذه الخطوة من خلال التكفّل بنقل الرسالة نفسها الى السعودية، الطرف المعني الآخر بحلحلة الملفّ”. ومن كواليس اللقاء الذي جمع الكاردينال والسفير الإيراني والذي دام ساعةً ونصف الساعة علمت “البلد” أن “الراعي أكد للسفير أن السنّة في لبنان طرف والشيعة طرف وأن كليهما يتحكّمان برئاستي مجلس النواب والحكومة ويختاران ممثليهما فيما المسيحيون عاجزون عن اختيار رئيسهم. وبالتالي يبدو أن موقع الرئاسة هو الضحيّة الأساسيّة في لعبة شدّ حبال 8 و14 آذار، لذا أدعوكم الى الضغط على حلفائكم في لبنان لتسهيل عملية الانتخاب في مقابل دعوة السعودية الى الضغط على حلفائها لتقديم تسهيلاتٍ موازية”.

حراكان متوازيان

قد يسمع الراعي الكثير من عبارات “التقزيم” للدور الفاتيكاني في ملفّ تفصيلي - بالنسبة الى العالم- كانتخابات الرئاسة في لبنان، ولكن الكاردينال يؤمن جيداً أن الدبلوماسية الفاتيكانية هي دبلوماسية صامتة لكن فاعلة جداً. ولعلّ حراك السفير كاتشيا في الآونة الأخيرة على أكثر من خطّ داخلياً ودولياً إنما يحمل المؤشر الدامغ الى التنسيق القوي بين بكركي والفاتيكان في هذا المجال، وهو ما دفع الراعي الى التحرّك بإيعاز فاتيكاني ليكون دوره أساسياً ودور كاتشيا مكمّلاً تحت مظلةٍ انسجامية تامّة. وإذا كانت حقيبة سفر الراعي الى الفاتيكان مثقلة بالملفات التي سيضع الحبر الأعظم في صورتها، فإنه وعلى ما علمت “البلد” لا ينوي طرح الموضوع الرئاسي في واشنطن احترامًا لموضوع المؤتمر وسيكتفي بإفراغ ما لديه على مستوى همّه الثاني الذي لا يقلّ أهمية كونه يمسّ بأبناء بيعته، بمسيحيي العراق، وشرقه النازف.

ماذا حصل في تموز؟

لم يغب الفاتيكان يومًا عن ساحة الشغور الرئاسي وهو الذي استمع حبره الأعظم الى الراعي أكثر من مرّة منذ وقوع المحظور. ولعلّ كثرة ما سمعه البابا عن خصوصيّة هذا الموقع بالنسبة الى مسيحيي لبنان خصوصًا والشرق عمومًا هي التي دفعته الى تجنيد سفيره في لبنان غبريال كاتشيا لتسجيل حراكٍ نوعي خرج الى العلن كاسراً حكاية “الدبلوماسية الصامتة” في الشهر السابع من خلال مجموعة لقاءاتٍ واتصالاتٍ اضطلع بها كاتشيا ولا يزال، ولعلّ إصرار الراعي على انضمام سفراء الدول الخمس الى لقاء البطاركة أمس إنما يصبّ في خانة “إحراجهم” بطرح الأمور كما هي بلا مواربة استناداً الى ما يعرفه الراعي ولا يعرفه الآخرون وهو الرسائل التي نُقِلت من الفاتيكان الى كلٍّ من إيران والسعودية والتي تحمّل الدولتين صراحةً مسؤولية استمرار الشغور في لبنان، ركوناً الى حقيقة تأثيرهما في هذا المجال.

ربيعان... وجعان

لا يبدو أن بكركي ماضية في رحلة البحث عن “ربيع مسيحي” بالمعنى الحرفي للعبارة بعدما أجبرتها المماطلة والتسويف الرئاسيان على الارتضاء بأيّ رئيسٍ بديل عن الشغور واستبعاد لعبة الأسماء مقابل الانغماس في إيجاد أدوات الربط بين وجعين لا يمكن الفصل بينهما: وجع لبنان بلا رئيسٍ مسيحي ووجع الشرق بلا شعبٍ مسيحي. ربيعان-وجعان يحملهما الراعي الى الفاتيكان: ربيع الرئاسة الذي لم يُزهر بعد، وربيع المسيحيين الذي حولته الحركات المتشددة جحيمًا تهجيرياً.