في كتابه "السلام المفقود"، اعتبر ​كريم بقرادوني​ السياسيّ العتيق، والكتائبيّ السّابق، المختبر للسياسة ال​لبنان​يّة بتفاصيلها وتعرّجاتها، أنّ "لبنان شرق أوسط صغير". أدرك الرجل الذي تولّى مهمّات خطيرة حين كانت الحرب اللبنانيّة على أشدّها وفي ظلّ الحروب البنيويّة بين المسيحيين، أنّ لا حياد للبنان عن الصراع الدائر في المنطقة، إذ غالبًا ما تجري على أرضه، وإذا ما حدثت حوله فهي تتسلل إلى تفاصيله ومفرداته لتحدث الضجيج القاتل من جديد.

لم يحد لبنان يومًا في تاريخه المعاصر والحديث عن الخارج. جغرافيًّا ونظاميًّا تكوّن منه، ولد من رحمه. وعلى الرغم من ذلك، كانت له مقوّمات أمنيّة وشرعيّة وقانونيّة، تستند عليها السلطة السياسيّة لاحتواء كل أزمة ناشئة ولو بالحدّ الأدنى، في حين أنّ الواقع الراهن يدلّ على خواء فاغر ومطلق وفراغ متفلّت وموصول بالصراعات التي أخرجت منطقة الشرق الأوسط بأسرها من دائرة توازناتها، وهي محكومة بانهيار الخطوط السياسيّة القديمة، التي كُرّست في مؤتمر فرساي سنة 1920، والناشئة من توافق فرنسيّ-إنكليزيّ، عرف بسايكس-بيكو.

لم يرتجّ الكيان اللبنانيّ بتكوينه ومؤسساته المعقودة على هذا التكوين، كما ارتجّ في الزمان الحاضر. عاصر هذا الكيان تبدّلات وثورات جذريّة في أنظمة عربية محيطة به، من سوريا إلى العراق إلى مصر وليبيا... كان جزءًا من الصراع العربيّ-الإسرائيليّ، وتداخلت القضيّة الفلسطينيّة بذاتيّته فباتت جزءًا منه وقلب أزمته بل أزماته المتراكمة. غير أنّه بقي بالحدّ الأدنى متوازنًا مع نفسه، وحافظ التكوين، وبسبب من هذا التوازن، على بعض من مناعته على الرغم من العطب الذي شابه. وانتخب اللبنانيون رؤساء للجمهوريّة، وانتخبوا نوابهم ما خلا الحقبة الممتدة من سنة 1972 حتّى سنة 1992، على الرغم من مقاطعة المسيحيين للانتخابات النيابيّة آنذاك. الارتجاج الحاليّ أفقد النظام السياسيّ بتكوينه الجذريّ القائم على الترابط الميثاقيّ-التشاركيّ، أو ما أسماه كمال الصليبي بالعقد الاجتماعيّ مناعته وسطوعه، فلم يعد بمقدور السياسيين المصطفيّن في هذا المعسكر أو ذاك التلاقي ولو بالحدّ الأدنى، على منطق إدارة الصراع بهدوء وحكمة، بحيث يقي هؤلاء لبنان بتكوينه من الانزلاق نحو التبدلات المطلقة المرسومة للمنطقة.

لبنان اليوم لا يعاصر التبدّل في الأنظمة المحيطة به. بل يعيش زلزالاً وجوديًّا كبيرًا وعميمًا، يبيدها من جذورها، فيؤول وبحسب معظم الدرسات إلى تغيير جذريّ في الخريطة السياسيّة للمشرق العربيّ. وفي هذا المجال، تعود الذاكرة إلى استشراف قدّمه الدكتور شارل مالك في أواخر الستينات في الجامعة الأميركية في بيروت، حين سأله صديق حميم له بعد نقاش عن الواقع السياسيّ في منطقة الشرق الأوسط، فأطرق الرجل مليًّا وأجاب في نهاية النقاش، إسمح لي يا صديقي بأن أزعم بأن بعض الدويلات ستبقى في حوض المشرق العربيّ. ومعروف بأن شارل مالك المفكر والدبلوماسيّ والفيلسوف والمؤسس للإعلان العالمي لحقوق الإنسان مع رينه كاسان وإليونور روزفلت، كان أوّل من حذّر من الخطر الصهيونيّ على المنطقة العربيّة، ومن طول الحرب مع الكيان الإسرائيليّ في برقيات أرسلها إلى الحكومة اللبنانيّة في أواخر الأربعينات من القرن المنصرم. شارل مالك وميشال شيحا وفارس الخوري، هم أوّل من حذروا وخشوا من تمدد هذا الصراع بالعناصر الدينيّة والمذهبيّة، وخلص ميشال شيحا في النهاية بالقول بأنّ الأنموذج اللبنانيّ يشكّل وبهكليته التكوينيّة، خطورة فائقة على ديمومة إسرائيل ككيان غاصب.

إن استهلاك إسرائيل للعنصر الدينيّ والمذهبيّ بات جليًّا في هذا المدى، في سوريا والعراق، بالشراكة مع دول خليجيّة وإقليميّة. ليس الأنموذج اللبنانيّ بفرادته خطرًا على ديمومة إسرائيل، لكنّ الأنموذج المشرقيّ، وبعد تجويف الأنظمة في الدول، بات خطرًا، بمعنى أن خطوط سايكس- بيكو، التي أنشأت الدول بحدودها الجغرافية المعترف بها دوليًّا، ووطّأت السبل وعبّدت الطرق لنشوء دولة إسرائيل، قد انتهت صلاحياتها بالقراءة الإسرائيليّة والأميركيّة، فلا بدّ من التحوّل من حقبة التوطئة والتعبيد والتأسيس إلى حقبة التمدّد بتجسيد التمزّق البنيويّ على مستوى الإسلام العربيّ نفسه والمسيحيّة المشرقيّة والعربيّة نفسها، إذ انه السبيل للتمدّد ما بين النيل والفرات، عن طريق تجميع بعض الدويلات وبقائها، في حين أن تلاقي الإسلام القرآنيّ بمذاهبه والمسيحيّة المشرقيّة بمذاهبها في مدى العروبة الرحب (والرؤية لرئيس الحكومة الأسبق ​سليم الحص​، أدلى بها لجريدة السفير في كانون الأول الماضي)، هو الخطورة الفائقة على بقاء إسرائيل وتمدّدها أمنيًّا واقتصاديًّا وحضاريًّا وثقافيًّا من النيل إلى الفرات.

قياسًا لهذه الرؤية، إنّ الحربّ الطويلة التي يشنّها التحالف الدوليّ غير المكتمل للعناصر، لا تستأصل تنظيم داعش أو جبهة النصرة من جذورها بقدر ما تميل ما بين الاستثمار والتحجيم. وتتدحرج العبارات النارية من وزير الخارجية السعوديّة بوجه سوريا، فيما اليمن مهدّد وعلى الرغم من السيطرة الحوثيّة على عاصمته بحرب أهليّة لا تشي على الإطلاق بقرب التفاهم السعوديّ-الإيرانيّ بانتظار ما يمكن أن يحسمه الميدان هنا وهناك.

لبنان في وسط تلك الجبهات. وهو مكنون في هذه الأزمة الكيانيّة-الوجوديّة، تتمتم فيها الطبقة السياسيّة ما يملى عليها ولا تأتي بشيء من ذاتها. معلومات كثيرة تتوارد، ورؤى متنوعة تنساب، وأفكار مختلفة تنسكب، معظمها يشاء البقاء على استقرار تلك الحكومة ولو بالحدّ الأدنى، في ظلّ الإمعان باستمرار الفراغ الرئاسيّ، والمقايضة ما بين التمديد والتشريع، وعدم قدرة الحكومة اللبنانيّة على الحسم في عرسال، ومن ثمّ التواصل مع الحكومة السورية لتبيان عناصر الحسم ومعاييره، وقطع الطرقات من قبل ذوي العسكريين المخطوفين، وورود معلومات عن محاولة فتح الجبهة الطرابلسية من جديد... والسؤال المطروح كيف تلج الحكومة استقرارها، في ظلّ الاختباط الشديد، الذي من شأنه أن يبيح الاحتراب على المستوى الداخليّ؟

لم يعد لبنان في وسط العاصفة شرق أوسط صغيرًا كما كتب كريم بقرادوني. لقد تلاشت تلك الأنظومة بالمطلق في سياقها الصغير وسياقها الكبير على السواء. ذلك أن فقدان القدرة على انتخاب رئيس للجمهوريّة في هذا الزمان، وعلى الرغم من أنّه وخلال الحرب بل الحروب المتعاقبة، تمّ انتخاب الياس سركيس وبشير الجميل وأمين الجميل ورينه معوّض ومن ثمّ الياس الهراوي رؤساء للجمهوريّة، يظهر كم أنّ النظام السياسيّ والهيكل التكوينيّ بات في قمة الخطر. واهتراء النظام السياسيّ بدؤه التلاشي الأمنيّ وعدم إجراء انتخابات نيابيّة وفقًا لقانون يؤمّن ديمومة التوازن الفاعل والراسخ...

لبنان في ظلّ العاصفة مستلحق بالاحتدام الكبير ما بين الشام والحجاز، وما بين الحجاز وطهران. لا يبقى أمام اللبنانيين سوى التبصّر العميق بما بلغته الأزمة العميقة، والخلوص إلى قراءة نقديّة جريئة ولو بلغت حدّ الثورة بمنعطفاتها. الهيكل التكوينيّ للبنان بدأ بالانهيار، والطريق بعد غير سالكة لتسويات ألفناها تبقي على الحدّ الأدنى من الحضور المتنوّع، فهل نستطيع القفز نحو قراءة تكوينيّة وتأسيسيّة جديدة لم يبق لنا سواها، تنطلق من جوهر الميثاق والعقد الاجتماعيّ وهو رحم الديمقراطية التشاركيّة، أو ننزلق إلى العدم بانتظار ولادة خطوط جغرافية سياسيّة، بعد هذه الحرب، تزيل دولاً وتحجّم بعضها إلى دويلات؟

هذا هو التحدّي الملقى على عاتق الطبقة السياسيّة اللبنانيّة فعسى أن تهتدي.