ليس السؤال-العنوان المطروح عابرًا إذا رمنا كلبنانيين معنيين بلبنان إلى استقلال وجوديّ نحققه في بنيتنا وبلحمتنا، بل هو منطلق من حقيقة الكيان المهتزّ، المبنيّ على هذا المركّب الطائفيّ والمذهبيّ، والمتأثّر عضويًّا بعواصف هوجاء هابّة تستدخلها الكيانات الطائفيّة والمذهبيّة تدعيمًا لأطروحاتها التي تعنى بالحكم والبقاء.

كتب كثيرة ألّفت أفكارًا عديدة صدرت، حاول أصحابها الغوص في الكيان اللبنانيّ بعمقه البنيويّ وهويته الوطنيّة وانتمائه الروحيّ، وصفته الكيانيّة بالمعنى العروبي والمشرقيّ، وبقي الواقع يشي بالتمزّق، ولم يبلغ اللبنانيون نحو اتفاق يؤكّد أن لبنان وطن مستقلّ بدستوره وإرادته وسيادة شعبه على أراضيه وممارسة السيادة بالأطر الوطنية والديمقراطية... لم يثبّت اللبنانيون أنّ لبنان ليس وليد الفرنسيين، أي وليد سايكس-بيكو بالاستقلال الذي نالوه سنة 1943، وقد أظهر معظم المؤرخين أنّ الاستقلال ما كان سوى هدنة بين مرحلتين، مرحلة لبنان الصغير المحاط بولايات متناثرة ما بين سوريا وفلسطين في إطار جغرافية برّ الشام أو الهلال الخصيب، ولبنان الكبير المعدّ ليكون في العمق ساحة لصراعات جديدة مصدرها بالدرجة الأولى إسرائيل وقد كان اتفاق سايكس-بيكو التوطئة الأولى والمقدّمة الأساسيّة لانغراسها، وقد ظهر على تلك الصفة منذ 1948 وصولاً إلى الحقبة الناصرية في الخمسينات من القرن المنصرم، إلى اتفاق القاهرة، سنة 1969، إلى قمّة الأسد-كيسينجر والذي اعتبر المقدّمة الأولى للحرب في لبنان وعليه انطلاقًا من تفجير القضية الفلسطينيّة على أرضه سنة 1975 مرورًا بتهجير المسيحيين من الجبل وحروب داخل الدوائر المذهبيّة حتى وصولنا نحو اتفاق الطائف.

كلّ تلك المراحل أثبتت هشاشة الاستقلال على الرغم من نضال آبائه الكبار وتوقهم عبر سجن راشيا لتحقيقه وتجسيده. في مقاربة واضحة بين ذلك الزمن وهذا الزمن، نقرأ أمرين:

1-لم تفلح المواثيق على الإطلاق في انبثاق وطن. وطن المواثيق الذي أضحى نهائيًّا من خلال اتفاق الطائف، ظلّ مجرّد حلم، "كان صرحًا من خيال فهوى"، كما نظم شاعر الأطلال إبراهيم ناجي. وظللنا جزءًا من صراع على الهويات إلى أن بلغنا في المراحل الراهنة الصراع بين الأديان والصراع في الدين الواحد. لقد تلاشى لبنان بصراعاتنا المتماهية بل المتداخلة بصراعات الآخرين، وما المواثيق التي كتبت من الاتفاق الثلاثيّ الذي لم يتم التوافق عليه حتّى اتفاق الطائف سوى محطات نقلت لبنان من محطة إلى أخرى، بفعل تلاقي المصالح بين الدول المتصارعة على أرضه. هي محططات تسووية وليست بتأسيسيّة.

2-لم يقرأ اللبنانيون بالعمق لا في الدستور الأول (دستور 1926) ولا في الدستور الثاني (1990) أنّهم أهل هذا البلد وأصحاب السيادة يمارسونه بانبثاق السلطات من إرادتهم. المصيبة الكبرى أنهم تعاطوا مع الهوية اللبنانية بصفتها الورقيّة وليس الوجوديّة والكيانيّة، وبات لبنان كما قال مرة الراحل غسان تويني، فندقًا بخمسة نجوم. لم تعن تلك الهوية شيئًا للبنانيين فباتوا شعوبًا طائفيّة. الطامة هنا التي نحن أمامها، أنّنا تحولنا من السؤال عن الوطن ودوره وحضوره إلى السؤال عن الطوائف والمذاهب ودورها. لقد ضاعت الأنظومة الميثاقيّة المؤسسة للبنان، والتي أدخلت اللبنانيين بتزاوج مبين ورصين بين لبنانيتهم وانتمائهم العروبي والمشرقيّ، بتلاشي القوميات الكبرى، وسرنا في أسئلة خطيرة تخصّ الكيانات الطائفيّة ليس بالاستدلال على الوطن بل بالاستقلال عنه.

لم يفهم كثيرون أنّ تحقيق الاستقلال بعمقه استند إلى التوازن الحقيقيّ المعبر عنه في المناصفة الفعليّة. المناصفة هي جوهر لبنان وحقيقته، وهي جاءت كردّ واضح على شكوك جورج نقّاش بإمكانية التزاوج بين المسيحيين والمسلمين حين كتب: Deux négations ne font pas une nation ما ترجمته في العربيّة "نفيان لا يؤلّفان أمّة واحدة". كانت المناصفة الفعليّة الكلمة الأفصح التي جمعت في الميثاق رياض الصلح إلى ميشال شيحا وبشارة الخوري. لكنّنا ظللنا في محطات عديدة نأخذ لبنان كمعطى رسمت حدوده بقلم فرنسيّ، وهو وليد وصايات ولا يحيا إلاّ بكنفها كما حصل مع العثمانيين في محطات ما قبل التأسيس وبعد ذلك مع الفرنسيين، ومع الناصريين والفلسطينيين والسوريين والسعوديين والإيرانيين.

بهذا المعنى عن أي استقلال يتكلّمون ويحتفلون؟ ما يجب ذكره في الحقيقة وهو الأمر الموجع، بأنّنا لم نحقق في التاريخ اللبنانيّ المعاصر والحديث حقيقة استقلاليّة، ما خلا المحطة التي حلمنا كلبنانيين بأن تكون تأسيسيّة ونحقّق ما تمت تسميته بالدستور الأمّة اللبنانية، كانت في الرابع عشر من آذار. يجب الإقرار بأن تلك المحطّة بماهيتها وحقيقتها كانت فريدة بكلّ ما للكلمة من معنى. صحيح أنّها ولدت من دماء رفيق الحريري، وعبّرت عن توق من كلّ الطوائف للتحرر من الوصاية السورية وكلّ الوصايات التي سبقتها، لكنها رنت بفعل التداول في الأفكار ما بين آباء تلك الحركة المليونية آنذاك، إلى دولة جديدة يسهم فيها اللبنانيون، تتأسس برؤيتهم الجديدة، الآيلة إلى وجود أحزاب وطنيّة علمانيّة تشاء إلغاء الطائفيّة من جذورها، واستبدالها بنظام المواطنة. كتابات سمير قصير، حراك جورج حاوي آنذاك يظهران تلك الرؤية التي بثّت بين اللبنانيين وجاءت تبيانًا للقاء مسيحي-إسلاميّ عامر وعارم.

ثمّة انقلاب حصل من قبل من تكلم باسم الرابع عشر من آذار ومن تكلم باسم الثامن آذار بتحالف رباعيّ، أعاد الطبقة السياسيّة إلى السلطة وأعاد معها نظام الوصايات من سعودية وإيرانية وأميركيّة...

عن أيّ استقلال إذن نتكلم بعد دخولنا اليوم عاصفة وجوديّة هبّت من سوريا إلى العراق. بعد ولادة تنظيم متوحّش يشاء أن يبقي الكيانات المشرقيّة متلاشية مبعثرة ومتوغّلة في الصراع؟ لقد مضى عهد الاستقلال ودخلنا عصر تلاشي الحدود حتى البلوغ إلى تسوية جديدة تنتج خطوطًا سياسيّة جديدة من صنع الآخرين.