عندما فشلت أميركا في المحافظة على احتلالها للعراق بعد أن دمرته ، و بعد ان اضطرت تحت وطأة المقاومة التي نظمت ضدها للخروج منه ، و بعد أن فشلت في تركيع العراقيين بالإرهاب الذي جاءت به اليهم عبر تنظيم القاعدة و فرعها المسمى يومها " الدولة الاسلامية في العراق " ، ، بعد ان فشلت في كل ذلك اضطرت للخروج من العراق مكتفية باتفاقية امنيه و بسفارة شكلت شبه دويلة داخل الدولة العراقية ، و قد تصورت ان الاتفاقية و السفارة قادرتان على حفظ مصالحها في العراق في السقف الذي تريد ، وابقاء العراق جرما يدور في الفلك الاميركي و منصة تستعملها لاشغال محور المقاومة في الشرق (ايران ) و في الغرب ( سورية ) و منعه من أداء دوره الهادف لتحقيق مصالح شعوب المنطقة.

و عند الاختبار تبين أن الظنون الاميركية ليست في محلها ، حيث استطاع العراق و في اقل من ثلاث سنوات ان يسفه الاحلام الأميركية ، و يتجه لاحتلال المقعد الذي تؤهله له جغرافيته السياسية ، و المنسجم مع الاتجاه العام لمحور المقاومة ، و يمارس دوره الطبيعي كشقيق صديق لسورية العربية و لايران الاسلامية الجارتين اللصيقتين ، ثم كان الاختبار الأصعب مع بدء العدوان الخارجي على سورية ،حيث رفض العراق طلبا أميركيا بالانتظام في جبهة أعداء سورية المنتحلة لاسم "اصدقاء الشعب السوري" ، مطالبا بالحل السلمي في سورية بما يستجيب لإرادة الشعب السوري الحقيقة خلافا لما تريد اميركا فرضه على السوريين بتنصيب حكام يلعبون دور حراس المصالح الصهيواميركية في المنطقة .

هنا علمت اميركا ان احتلالها للعراق فشل في تحقيق غاياته، وان خروجها منه بالصيغة التي اعتمدت فشل هو الاخر في الاحتفاظ بالعراق في جوقة التابعين المنصاعين لها، فتصاعدت الأصوات الأميركية التي تظهر الندم على الاحتلال والخسائر التي بذلت في سبيله، وأضيفت اليها أصوات تظهر الندم على الخروج بالصيغة التي تمت.

على ضوء ما تقدم، وتقاطعا مع مصالح دول إقليمية تابعة لأميركا (خاصة السعودية وتركيا) يبدو أن أميركا قررت العودة الى العراق ميدانيا لتقطع الطريق عليه وتمنعه من متابعة السير الحثيث نحو الموقع الاستراتيجي الذي تمليه جغرافيته السياسية اي الانتظام (في الحد الأقصى) والتنسيق (في الحد الأدنى) مع محور المقاومة والابتعاد عن التبعية لأي من دول الإقليم خاصة السعودية وتركيا، ورفض التحول إلى مستعمرة أميركية.

و لكن العودة بالشكل الذي تريده اميركا دونها مصاعب جمة ، فاميركا لا يمكنها شن حرب لاحتلال جديد فالامر بات مستحيلا لاكثر من اعتبار ، كما ان السلطة العراقية و تقيدا بالاتفاقية الامنية بين الدولتين ذات صلاحية بتحديد حجم المساعدة العسكرية التي يمكن ان تطلبها من اميركا من حيث طبيعتها و كيفية استعمالها ،و السلطة هذه و رغم حجم المخاطر الامنية التي يشكلها الارهاب عليها لم تكن بوارد طلب قوات أميركية برية لمساعدتها اذا نها كانت تتعامل مع تلك المخاطر بالمتاح من الوسائل العسكرية الوطنية بما يبقي الأمور تحت سيطرتها .

لكل ما تقدم ابتدعت اميركا خطة شيطانية ترمي فيها عصفورين بحجر واحد، فكانت "داعش " (وهي المنتج الإرهابي الأميركي) الجسر الذي تعبر عليه اميركا لتحقيق أهدافها في العراق وسورية. وأناطت بها تنفيذ "استراتيجية حرب استنزاف" طويلة، توخت أميركا منها إجبار العراق على طلب المساعدة الأميركية العسكرية وبالشكل الذي يترجم عودة أميركية مباشرة إلى الميدان، ويمكن أميركا من استيعاب نتائج الانجازات السورية في مواجهة الإرهابيين ومنع الجيش العربي السوري من استثمار تلك الإنجازات في مسيرة استعادة الأمن والاستقرار إلى البلاد.

بدأت حرب الاستنزاف الأميركية ضد العراق وسورية “بتنفيذ داعش مسرحية الموصل التي تمت تحت المراقبة والتوجيه الأميركي، ثم تابعت داعش تمددها شرقا في العراق، وحاولت الدخول إلى لبنان عبر عرسال وصولا الى المتوسط لتتخذ من طرابلس مرفأ لها. وبعد عمليات إجرامية قادتها داعش شمال العراق ضد الايزيدين من جهة وضد أربيل من جهة أخرى، "رفعت أميركا البطاقة الحمراء لصنيعتها"، وقررت التدخل العسكري ضدها مصورة تدخلها بانه نجدة للإنسانية لإنقاذها من خطر الإرهاب الداعشي، وسقط البعض في فخ الخدعة الأميركية، لكن من يعرفون طبيعة السياسة الأميركية أدركوا منذ البداية أن في الأمر مكيدة أو قل مسرحية توسلاتها واشنطن للتهويل على العراق وسورية ولتبرير التدخل العسكري أولا ثم العودة الميدانية ثانيا.

لقد اختارت اميركا في البدء نمط الضربات الجوية ضد داعش ، مدعية ان هذه الضربات ستؤدي الى اجتثاث داعش من العراق و تحجيمها في سورية ، ادعت ذلك رغم انها تعلم يقينا بان اي عمل عسكري ناري لا يكون مصحوبا و منسقا مع عملي بري ميداني ، لا يمكن ان يصل الى مرحلة التدمير و الاجتثاث الكلي او التطهير الفعلي ، و مع ذلك اعتمدت قصف الطيران بشكل ادى في مراحله الاولى الى انعاش داعش و تمكينها من الاستحواذ على تعاطف الكثيرين من المضللين المعتقدين بان داعش حركة إسلامية حقيقية .( خلافا لحقيقتها بانها حركة إرهابية أنتجتها أميركا لتقويض الإسلام و تدمير المنطقة خدمة للمشروع الصهيواميركي ) .

شكلت الضربات الجوية التي احاطتها اميركا بتحالف دولي أنشأته في ظل حرب نفسية صورت داعش بانها ذات قدرات أسطورية تمكنها من السيطرة على العالم حتى روجت ان داعش قد تكون امتلكت القنبلة النووية، شكلت هذه الضربات فرصة لأميركا للعودة عسكريا للمنطقة، ولداعش لكسب التعاطف يعزز عديدها الذي ارتفع بعد مسرحية الموصل من 25 ألف إلى ما يناهز أل 80 ألف إرهابي.

لكن سورية لم تقع في الفخ الاميركي و ادركت منذ البداية ان من صنع الارهاب و تعهده لا يمكن ان يحاربه و يقضي عليه طالما انه لازال بحاجة الى خدماته ، و اميركا لا زالت بحاجة الى خدمات داعش لتعيدها الى العراق و لتستنزف سورية و تمنعها من تطوير انتصاراتها ، ثم لاسقاطها كما كان مشروعها منذ البدء، لذلك اتخذت سورية الموقف الذي لا يعطي لاميركا براءة ذمة في قصفها لما تدعي انه مواقع لداعش ، كما انها لم تنبري للدفاع عن داعش و هي التي ترتكب الجرائم على الارض السورية ، و تابع الجيش العربي السوري عملياته الناجحة التي شكلت ردا واضحا على حرب الاستنزاف الأميركية .

اما العراق فقد تنبه كما يبدو للامر و رغم انه طلب من اميركا العمل بالاتفاقية الامنية و تقديم مساعدة و اسناد جوي للقوات العراقية ضد داعش ، فانه رفض بشكل قاطع عودة القوات العسكرية البرية الاجنبية الى العراق مهما كان حجمها و كانت جنسيتها بما في ذلك الاميركيين ، ترافق ذلك مع تنظيم قوى عراقية رسمية و شعبية للعمل ضد داعش بشكل فاعل و حققت هي الاخرى انجازات هامة و من طبيعة استراتيجية كان ابرزها تنظيف جرف الصخر و بيجيه.

وإذا كان الموقف السوري متوقعا من قبل الأميركيين، فان الموقف العراقي كما يبدو فاجأهم، ولذلك اتجهوا للالتفاف عليه والسير قدما في عملية إرسال القوات البرية الأميركية إلى العراق، وتشكيل منظومة ذات قابلية للتطوير مستقبلا لتصبح قوات ضغط وسيطرة على القرار العراقي بما يمنع تحقق هواجس اميركا من تحول العراق الى عضو في محور المقاومة أو جسر واصل بين أطرافه.

لقد ادركت اميركا ان استمرار انجازات كل من سورية و العراق سيؤثر سلبا على حرب الاستنزاف التي بدأتها منذ خمسة اربعة ، ما دفعها و في لحظة من الشعور بالفشل ، الى التصريح بما كانت تخفيه يوم تشكيل التحالف الدولي و البدء بالضربات الجوية ، حيث جاء على لسان احد كبار ضباطها "أن العراق بحاجة الى 80 الف جندي اجنبي ليجتث داعش " (أي عودة عسكرية اجنبية الى العراق بقيادة اميركية)، اما في سورية "فلا اجتثاث لداعش و لا إمكان للتغلب عليها إلا بعد اسقاط الدولة السورية القائمة برئاسة الرئيس الاسد "على حد ما نقلت ال سي ان ان عن احد المسؤولين الأميركيين.

استبقت هذه المواقف بقرار إرسال 1500 عسكري أميركي بمهمة تدريب القوات العراقية لينضموا إلى عدد مماثل سبقهم، وأميركا تعلم أن هذا العدد لا يمكن أن يحصر في مهمة تدريب، فتدريب الكتيبة المؤلفة من 500 عنصر لا يحتاج لاكثر من 15 عسكريا مدربا وخبيرا، فهل أن أميركا ستقوم بتدريب 200 كتيبة عراقية أي 100 ألف جندي عراقي في نفس الوقت؟ طبعا هذا امر مستحيل، ومن جهة ثانية يطرح السؤال لماذا تريد أميركا القواعد العسكرية وتدعي أنها للمدربين، ثم تختار 5 مناطق متباعدة لإقامة ما اسمي "معسكرات تدريب" تستأثر القوات الاميركية بالسيطرة الكلية عليها خلافا للاتفاقية الأمنية مع العراق؟

كل هذه الوقائع والمواقف تؤكد شيئا واحدا كنا قلناه منذ اللحظة الاولى لتشكيل التحالف الدولي وهو أن أميركا أعلنت للتحالف أهدافا مزيفة واخفت الأهداف الحقيقة، واضطرت الآن لكشف الأهداف الحقيقية بعد أن حققت سورية والعراق كل في ميدانها من الانجازات العسكرية ضد الارهابيين ما افهم اميركا بان خطتها ستفشل ما اجبرها على نزع القناع والتصريح بحقيقة ما تريد من أهداف وهي بكل دقة اثنان:

1) في العراق: العودة في احتلال ملطف وتثبيت قواعد عسكرية دائمة، هي ذاتها القواعد الخمسة التي رفض المالكي إقامتها سابقا، قواعد يستوعب كل منها ما بين 15 إلى 25 ألف جندي، تكون مدعومة بطيران وبحرية الأسطول الخامس في الخليج، في مهمة منع التحاق العراق بمحور المقاومة وجعله برزخا فاصلا بين مكونات المحور هذا.

2) في سورية: الدفع باتجاه استمرار الإرهاب ضد الدولة لمنع استعادة الأمن والاستقرار لربوعها، حتى تستسلم وتقبل بمشاركة أميركا بالقرار السوري عبر عملائها.

انه "الاحتلال الاحتيالي الناعم " هو ما تريده أميركا إذن في كل من سورية والعراق، ولكننا نرى الفشل ينتظرها كما كان حصادها سابقا من الخطط الماضية، لان لمحور المقاومة ومعه العراق في حكومته ومعظم شعبه من القدرات والإرادة الرافضة للاحتلال والمصرة على اجتثاث الإرهاب ما يمكنهم وبقدراتهم الذاتية وبتحالفاتهم من تحقيق ذلك حتى ولو استلزم الأمر بعض الوقت.