خلال 48 ساعة فقط قامت دولتان من الحلف الأطلسي باتجاه سورية بعملين في ظاهرهما متناقضين:

الأول تمثل بعدوان سافر على السيادة السورية قامت به تركيا -البوابة الشرقية للأطلسي –التي عبرت قواتها الأرض السورية متسللة بكتيبة مدرعة معززة بالمشاة من بالقوات الخاصة و بحماية من الجماعات المسلحة المنضوية في التنظيم الإرهابي داعش ، قوة تسللت لمسافة تتعدى ال30كلم داخل الأراضي السورية و نقلت رفاة جد مؤسس السلطنة العثمانية "سليمان شاه " و أجلت معها سرية حراسة من مشاة الجيش التركي ، و عادت بالجنود و الرفاة إلى تركيا دون أن تواجه في تسللها ذهابا و إيابا ما يلزمها بالقتال ،إذ لا يوجد في المنطقة التي تسللت فيها إلا الجماعات المسلحة التي تعمل معها تبعية أو تنسيقا عميقا .

أما الثاني فقد تمثل بزيارة الوفد البرلماني الفرنسي المميز بصفته التمثيلية و تنوع الاتجاهات السياسية، زيارة إلى سورية ساعيا للقاء المسؤولين البرلمانيين السوريين الذين جاءت بهم إلى مجلس الشعب ( مجلس النواب السوري) انتخابات جرت وفقا للدستور الذي تمت مراجعته و الاستفتاء عليه بعد اكثر من عامين على اندلاع النار في الأرض السورية نتيجة العدوان الذي قاده الأطلسي و كانت فيه فرنسا بعد أميركا رأس الحربة في تنفيذه ، كما كانت أول المنكرين للانتخابات و نتائجها و للاستفتاء على الدستور نفسه و الرافضين للاعتراف باي شرعية له و للمنتخبين على ضوئه رئيسا و نوابا.

فاذا نظرنا إلى الحدثين معا نجد التناقض مستفحل بينهما في الشكل و الدلالة ، ففي حين جاء التسلل العسكري التركي خرقا للسيادة السورية ما يقود إلى القول بان تركيا الأطلسية لا زالت مصرة على العدوان رغم ما لاقته من إخفاقات فيه ، فان التسلل السياسي الفرنسي ( نقول تسللا لان السلطة التنفيذية الفرنسية نفت علمها أو التنسيق معها بشأن هذه الزيارة ، نفيا يثير الضحك طبعا خاصة اذا انتبهنا إلى علاقة احد أعضاء الوفد اللصيقة برئيس الجمهورية ،و رفض الحكومة شمول الوفد على مدير الاستخبارات الفرنسي السابق) يشكل اعترافا بمؤسسات الدولة السورية و شرعيتها و تأكيدا على إسقاط الإنكار السابق لها .

ومع هذا التناقض قد يطرح السؤال المشروع والبديهي: هل أن الأطلسي الذي حشد طاقاته في العدوان على سورية وجمع اليه دولا أو أشباه دول تتبعه أو تدور في فلكه ليكتلها فيما اسمي "أصدقاء سورية" ويستعملها لنفيذ الحرب الكونية على سورية دولة وشعبا وتاريخا، هل أن أطلسي هذا اقتنع أخيرا بفشل حربه، وبدأ يتلمس طريق العودة إلى سورية؟ ا مانها لعبة توزيع الأدوار، أم هو التنافس بين الأعضاء كل طريقته ليحجز له مقعدا في المشهد الذي بدأ يتشكل إثر فشل العدوان على سورية؟

ولفهم ما جرى نلجأ إلى التحليل المنطقي للحدثين تحليلا يأخذ بالاعتبار أيضا الشعور التركي بالعزلة الإقليمية والدولية، والشعور الفرنسي بان القطار قد يفوتهم أن تأخروا وهم ينظرون إلى الأميركي يعمل ما بوسعه للتنسيق الأمني مع سورية ويلقي إليهم الفتات بالقطارة على حد قول نائب فرنسي.

ونبدأ بالتسلل التركي، ونقف على طبيعته وجوهره والفرضيات الممكن إطلاقها تفسيرا له فنجد، أن هذا العدوان تم مباشرة بعد توقيع الاتفاق التركي الأميركي لتدريب من تسميهم أميركا "معارضة معتدلة " وتعدهم – كما تزعم – للحلول محل "داعش" الإرهابية التي تحتضنها تركيا وقررت أميركا كما تدعي محاربتها (رغم أنها صنيعتها ولا زالت تحظى بحمايتها كما ظهر في الموقف الأميركي الأخير في مواجهة الطلب المصري للاقتصاص من داعش في ليبيا بعد جريمتها بقتل المصريين أل 21).

قد تكون تركيا التي فشلت في مهامها العدوانية التي كلفت بها ضد سورية في اطار الخطة الأميركية الأولى (خطة الإخوان) و بعد إذعانها للقرار الأميركي بإقامة معسكرات التدريب على أراضيها لقتال داعش ، قد تكون خشيت أن يكون مزار سليمان شاه و من يحميه من جنودها داخل الأراضي السورية( منطقة منحت تركيا السيادة عليها بموجب اتفاقية 1921 و هي من "إبداعات" المنتدب الفرنسي في منح تركيا السيادة على جزيرة داخل سورية بعيدة عشرات الكيلومترات من الحدود ) قد يكن عرضة لانتقام داعش فقررت أن تستبق الأمر و تقفل الباب قبل دخول داعش منه ، فتكون التسلل عملا استباقيا لإفلات الرقبة من يد داعش .

وقد تكون تركيا أرادت من العملية القيام بعمل عسكري يثبت وجودها في الميدان فيسجل اردغان نصرا استعراضيا عبر ادعائه بان نفذ عملية عسكرية نظيفة ولم يواجه أحد، وهو يعلم أن لا مراكز للجيش العربي السوري على مسلك تسلله، وأن داعش التي تسيطر على المكان هي من يطعم ويحتضن المزار والجنود الأتراك فيه، كما تحتضن الحكومة التركية مصالح داعش العسكرية والمالية والسياسية والإعلامية.

وقد تكون حكومة اردغان التي بح صوتها وطار صوابها من تجاهل حلفائها الأطلسيين لطلباتها بإقامة المناطق العازلة أو مناطق الحظر الجوي داخل الأراضي السورية ما يمكنها لاحقا من اتخاذه مفتاح تحكم بسورية وبوابة عبور للمنطقة بعد فشلها في الإمساك بكل سورية إثر إخفاق الإخوان المسلمين الذين قادتهم لتنفيذ خطة العدوان الأولى. وأرادت من هذا التسلل أن تقول للحليف كما للخصم أنها قادرة متى شاءت أن تدخل إلى سورية ولا يعترضها أحد وبالتالي تتطور تفسير تسللها ليكون بمثابة جس نبض أولا، ونموذجا يمكن البناء عليه لإقامة المنطقة العازلة أو أي تدبير مشابه.

وقد تكون تركيا التي هالها انهيار الجماعات الإرهابية التي ترعاها في ريف حلب، وما حققه الجيش العربي السوري والقوات الحليفة من إنجازات تنبئ بانها تسير في خط تصاعدي لن تتوقف قبل تطهير الشمال السوري من الإرهاب وأقفال الباب أمام التدخل التركي في الشأن السوري فأراد ت أن تقول بان قواتها جاهزة للتدخل العسكري المباشر دونما اكتراث بردود الفعل على العدوان، وأن توحي لسورية بانها لن تسمح لها بإسقاط حلب وحرمانها من موقع مؤثر ما عندما يحين وقت رسم خرائط النفوذ.

قد يكون هذا أو ذاك من الفرضيات كله أو بعضه ، هو الذي حمل تركيا على القيام بعدوان فاضح على السيادة السورية ، و لكن تحليلا عسكرية هادئا للعدوان التركي يقود إلى وضعه في الاطار الصحيح المناسب ،و بعد التأكيد على طبيعته العدوانية لمسه بسيادة دولة مستقلة و الدخول إلى أراضيها عسكريا دون استئذانها أو التنسيق معها فانه و بكل تأكيد عمل يصنف بالتوصيف العسكري ، بانه عملية انسحاب و أخلاء لمفرزة عسكرية باتت هناك شكوك حول القدرة على إسنادها و حمايتها ، و انه إشعار للجهة التي كانت تحمي الموقع و هي داعش بان هناك متغيرات قد تفرض قطع العلاقة معها أو مواجهتها .الأمر الذي يفسر عسكريا و سياسيا بانه نوع من أنواع الانكفاء و التراجع ، و ليس فيه مظهر قوة و عنفوان و لا يخفف من هذا التوصيف ما تبقى من فرضيات خاصة اذا أسقطناها على قدرات المحور الذي تعلم تركيا أنها تواجهه ، و تكون تركيا بذلك قد صفعت نفسها بيدها في الوقت الذي شاءت أن تعتدي و تكسب أوراق من عدوانها.

أما زيارة الوفد الفرنسي ، فإنها لا تحتاج لتحليل كبير أو اطلاق الفرضيات المتعددة ، فيكفي أن نضعها في موقعها الزمني من تطور الأحداث و مجريات العدوان و مآله و العمليات الإرهابية التي نفذت في فرنسا ليس اخرها شارلي ايبدو ، يكفي ذلك ليقودنا إلى القول بان فرنسا التي تعلم حجم الضغط الغربي و الأوربي والأطلسي لمراجعة الموقف من سورية الصامدة التي استعصت على السقوط و التي تعلم حجم ما تملكه سورية من كنز معلومات و خبرات في مواجهة الإرهاب حتى باتت العلاقة معها مطلبا و مصلحة لكل من يعتقد انه مهدد بالإرهاب أولا ، و التي باتت تدرك أن سورية المنتصرة على العدوان ستكون مع حلفها المقاوم احدى الأيدي الرئيسية التي تمسك بالقلم الذي يرسم خرائط النفوذ و المصالح في المنطقة التي على أساسها يبنى النظام العالمي الجديد ، و التي تدرك بان آخرين من أقرانها بما فيهم أميركا يعملون في الخفاء أو تحت الطاولة للتقرب من سورية و التنسيق معها اقله امنيا ، فرنسا هذه باتت تدرك أن مصلحتها الوطنية تكمن في العودة إلى سورية من باب الشرعية، ولا يهمها أن تحبط "المعارضة الكرتونية السورية" فتنعى نفسها قائلة "القصة خلصت".

انه التراجع إذن، تراجع أعتى خنجرين استعملتهما أميركا في العدوان على سورية ومحور المقاومة، تراجع لا يعني أن كل شيء انتهى وأن الطريق إلى الحل باتت سالكة، أبدا لا نقول بذلك الآن، لأننا نرى أن المعتدي الذي لا زال بيده أوراق قوة لن يسلم ببساطة بإخفاقه، وهو يعمل على خطين، خط التراجع والتحضير لما سيكون عند سكوت المدفع، وخط التربص للغدر والانقضاض إذا لاحت له فرصة في ذلك، وظن انه بتظاهره بالتراجع قد يخدع الخصم ويدعوه إلى الاسترخاء فينقض عليه.

وبناء عليه، أننا نرى في الحدثين سلوكا يؤكد أن المعركة الدفاعية التي خاضها محور المقاومة على أكثر من جبهة واتجاه، حققت الكثير من أهدافها وبقي من الطريق بعضه الذي قد يكون شاقا لأنه الجزء الأخير من المسار الذي بعده تتحدد المواقع والأحجام والأوزان ولذلك نرى الآن كيف يشتد الصراع في مسرح المواجهة الشاملة بين المشروعين من ليبيا إلى البحرين مرورا بمصر واليمن وسورية والعراق ولبنان قيد الانتظار.