كلّ من شارك في التظاهرة المليونيّة يوم الرابع عشر من آذار، أو في التحضيرات لها، من خلال المكوث في الخيم واللقاء مع كلّ الأطياف المشاركة، يلملم نفسه وحطامه في مدى الحنين إلى لحظات السّكر الوطنيّ وتوق الارتقاء إلى وطن ما كان القوم يرونه ساطعًا من دماء رئيس الحكومة الأسبق ​رفيق الحريري​، أو محصورًا بمشروع خروج السوريين من لبنان وتحرّر لبنان من ممارساتهم القمعيّة في ذلك الوقت، بل كان القوم يرونه مشروع وجود يولد من لقاء وطنيّ عابر للطوائف والمذاهب، من تكوين أحزاب وطنيّة تحاكي الجدّة السياسيّة في الطموح والرجاء.

... فقد كان سهلاً على الطبقة السياسيّة في لبنان، أن تمتصّ السطوع، وهي العارفة بأنّ اغتيال رفيق الحريري هدف لمشروع واحد فقط، وهو تنفيذ ​القرار 1559​ وإدخال المدى من لبنان بعد العراق في أتون صراع مذهبيّ كبير. وبمعنى أوضح، إنّ وظيفة القرار المذكور أن يكون المقدّمة الفعليّة للتوتير المذهبيّ الذي انفجر من لبنان واتسعت رقعته بعد ذلك باتجاه العراق والخليج، قبل انكشاف هذا الوحش التكفيريّ المنطلق من أقبية الحروفيّة المتمسكنة خلف ​الربيع العربي​ّ.

بعض القرّاء شاءوا ربط ربيع بيروت والتسمية للشهيد سمير قصير بالربيع العربيّ. في السلوكيات الشكليّة هناك ربط من حيث توق النخب والناس لأنظمة ديمقراطيّة تتجلّى برقيّ وفهم، وتتجسّد بمبدأ قبول الواحد للآخر والاتجاه نحو التداول على السلطة، والتأكيد على حقّ الإنسان العربيّ لبنانيًّا كان أو سوريًّا أو عراقيًّا... بالوجود والكرامة والعمل والإبداع والتعبير عن ذاته... لكنّ "ربيع بيروت" أجهض بتوكّأ الطبقة السياسيّة الطائفيّة على الرؤى المفرزة من الصراع الدوليّ-العربيّ على لبنان فتموضعت بمساحتها السوداء، مندرجة بعمق الصراع، متوسّلة خروج لبنان من وصاية سوريّة إلى وصايات عديدة. ماهيّة الانقلاب وما لحقه من تموضع، جاءت من الحلف الثلاثيّ القائم على تلاقي "حزب الله" و"تيار المستقبل" و"الحزب التقدميّ الاشتراكيّ"، أي رأس حربة حركة "14 آذار" مع رأس حربة "8 آذار"، ضمن انتخابات 2005 أعادت الطبقة السياسيّة عينها إلى السلطة مستهلكة المسيحيين في مولوديّة دامت طويلاً، ثم غدت السلطة جزءًا من صراع سياسيّ وأمنيّ ضمن دائرة ذلك "الحلف" وصولاً إلى حركة السابع من أيّار والتي أنتجت اتفاق الدوحة الشهير، والذي على أساسه تمّ انتخاب العماد ميشال سليمان رئيسًا للجمهورية بعد مخاض طويل نتج من هذا التراكم وبعد نهاية عهد الرئيس العماد إميل لحود. في المرحلة عينها، عاد العماد ميشال عون من منفاه الباريسيّ، وتحرّر سمير جعجع من سجنه الطويل، بمشروعين نقيضين في بعدهما الإقليميّ-الدوليّ، وهما من المكونات الأساسيّة لحركة "14 آذار"، فتعامل الأوّل مع السوريين من بعد خروجهم من لبنان، من زاوية استقرائيّة لمحتوى القرار 1559، وسدّد الثاني دينًا لمن أخرجه من السجن، فلم يتلاقيا في العمق العموديّ الوجوديّ المسيحيّ، وفي البعد الأفقيّ الوطنيّ، في صراع مفاهيم ورهانات ضمن اصطفاف كان الوحش التكفيريّ ينمو شيئًا فشيئًا خلفه، وبعض المحللين توقفوا عند حادثة اقتحام الأشرفيّة من قبل هؤلاء في الرابع من شباط سنة 2007، وكان الهدف من هذا الاقتحام تفجير الأرض اللبنانيّة من الأشرفيّة بالذات، والبيئة كانت مؤاتية.

أمّا الربيع العربيّ وبعد حرق البوعزيزي نفسه احتجاجًا على الظلم الاجتماعيّ والسياسيّ، فزهق بدوره بعدما استهلك إلى حيث شيء للعالم العربيّ أن يكون، أيّ إلى الأزمة الوجوديّة التكوينيّة التي بات عليها الآن. فانقلب "الاخوان المسلمون" على السلطات في تونس وليبيا ومصر ممسكين بالسلطة بدعم أميركيّ-إسرائيليّ-تركيّ وقطريّ وسعوديّ. في العراق تم الاستغناء عن رئيس الحكومة نوري المالكي، وفي مصر استلم الرئيس محمد مرسي السلطة ليتمّ الانقلاب عليه من المصريين فاستلم عبد الفتاح السيسي. غير أنّ الصراع في سوريا فلم يستطع إخراج الرئيس السوريّ بشار الأسد من السلطة حتى الساعة. ثلاث دول من بين تلك الدول تعيش خضات تكوينيّة وجوديّة لكونها بلدانًا تحوي على مكونات مسيحيّة-إسلاميّة ومذهبيّة سنيّة شيعيّة، هي سوريا والعراق واليمن، لكنّ الرئيس بشار الأسد وحده صمد بين الرؤساء العرب خلافًا للتوقعات التي أثيرت وبدت جوفاء.

ما يجدر فهمه في هذا السياق، بأنّ الشرق الأوسط الجديد، نشأ من القرار المختصّ بلبنان، إذا شاء بعضهم استهلاك الربيعين في رؤية أخرويّة واحدة. لم يكن الهدف في ذلك الحين إخراج سوريا من لبنان بدم رفيق الحريري السكيب فوق تراب بيروت فقط، بل توسّع الهدف أكثر باتجاه خلق نزاع كبير بين دول برّ الشام، ودول صحراء الحجاز إن جازت التسمية. ربيع بيروت أو ثورة الرابع عشر من آذار كانت توقًا، والربيع العربيّ نما في حراك الشعوب في هدفيّة التوق عينه. لكن لم يدرك السياسيون والمحللون بناء على اعتبارات جوهريّة واستراتيجيّة راسية في الفكر الإسرائيليّ بأنّ نشوء الديمقراطيّة العربيّة في رؤية الشعوب وإرادتها لذاتها لفظ منذ سنة 1948، أي منذ طرد الفلسطينيين من أرضهم. لقد أوجدوا تماسًا كبيرًا بين الدين والديمقراطيّة، بين الدين والتطور الفكريّ، بين العلمانيّة والعروبة... هذه مواد وجدت للانفجار الدائم ولم توجد للاستقرار. لقد قرأ العلماء فرادة لبنان في تمازج الديمقراطية بالسياق الطائفيّ، بهذا التوليف بينها وبين علاقة الطوائف ببعضها، كان هذا مسعى آباء الميثاق من ميشال شيحا إلى بشارة الخوري ورياض الصلح. وعلى هذه الرؤية نما حلم من نزل إلى ساحة الشهداء وأسّس لتلك الثورة، وكان بعضهم في حوارات دائمة وتأسيسيّة يتطلّع إلى ما بعد الثورة، أي إلى لبنان جديد. تلك الديمقراطية كانت وجه لبنان في محيطه العربيّ. لكنّ الخيارات المعاكسة كانت أقوى، وهدنا من جميع إلى عمق التجميع الطائفيّ في سياقه اللبنانيّ الضيّق، وارتباط هذا السياق بآفاق الصراع وهدفه.

هل سيتحقق الحلم من جديد؟ ثمّة بون كبير بات بين 14 آذار 2005، وما يعيشه لبنان في ظلّ أزمة تكوينيّة وحضاريّة تعصف بالمشرق العربيّ. غير أنّ العبرة تبقى في أن التكوين اللبنانيّ طائفيّ، والمساس بهذا التكوين بات خطرًا. الحلم موصول بمشيئة العقل، أي بالحفاظ على هذا التكوين والشروع نحو تطويره بطائفيّة متوازنة تعيد الاعتبار إلى بهاء لبنان كوطن. المناصفة شرط من شروط التأكيد على الميثاق والانطلاق منه لتحقيق المواطنة، والمواطنة لا تنمو إلا بتلاقي جذوريّة المسيحيين المشرقيّة بالإسلام القرآنيّ، وحده التلاقي ينتج وطنًا ويؤمّن التوازن المنشود في حقبة الاستحقاقات المطلّة.