قليلة هي المرات التي استقال فيها مسؤول لبناني او تعفف عن تقبل المسؤولية إزاء فشله او اخفاقه بتحمل مسؤولية اخلاقية او انسانية. في 28 شباط من العام 2005 اعلن الرئيس الراحل عمر كرامي استقالته على الهواء مباشرة ومن تحت قبة البرلمان بعد كلمة للنائب بهية الحريري و5 نواب آخرين من كتلة الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ورغم ان كلمة السيدة الحريري لم تجرّح بالرجل او تسيء الى حاضر وماضي الرجل السياسي بعكس كلمات زملائها في الكتلة التي لم تبق ولم تذر في الرجل، لكنها حمّلته المسؤولية الاخلاقية والادبية والسياسية عن الاغتيال كونه كان يرأس الحكومة خلال الاغتيال. لم يحتمل ضمير الراحل ان يكون مسؤولاً ادبياً واخلاقياً وسياسياً عن دم الرجل فاستقال من دون العودة الى حلفائه وبعكس بيان الدعم الذي كان صدر من إجتماع عين التينة الشهير وحضره الى الرئيس نبيه بري السيد حسن نصرالله وقادة آخرون. فاجأت هذه الاستقالة الجميع الحلفاء قبل الخصوم وبدت الدهشة على وجه الرئيس بري والفرحة الطائشة على وجوه بعض النواب من المتحولين الى ثوار ارز في ما بعد. بعد الاستقالة زاره وفد كبير من احزاب 8 آذار والذي صار يعرف بهذا الاسم حلاقاً بعد التظاهرة الشهيرة، وعبر الوفد عن دعمه للرئيس كرامي واخبرهم يومها انه شعر بالضيق والمسؤولية الاخلاقية وبالحملة التي طالته شخصياً وبهجوم كبير عليه من مجموعة من نواب الحريري ومن دون ان يكون هناك رد لهذا الهجوم او ذود عنه او استعادة التوازن. بعدها بشهرين تقريباً اعلن الراحل كرامي إعتكافه عن خوض العمل السياسي بعدما فشل في تشكيل الحكومة التي كلفه بتشكيلها الرئيس اميل لحود واعتذر عن التأليف وذهب الرجل الى منزله وبقي معتصماً فيه حتى العام 2011 عندما رسى التفاهم الاقليمي السوري- الايراني - الفرنسي - القطري على تكليف نجيب ميقاتي بدلاً منه خلفاً للرئيس المقال سعد الحريري من على بوابة البيت الابيض. لم يأت عمر كرامي رئيساً للحكومة لكنه عين لطرابلس وللحالة الوطنية السنية نجله فيصل ومن حصة الرئيس نبيه بري "الشيعية" كنوع من العرفان والجميل لقامة هذا الرجل الوطنية.

في الاول من كانون الثاني من العام الحالي رحل كرامي جسداً وبقي ظله وأثره حاضراً في نجله فيصل. فكما كان قامة وطنية في حياته جمع الاضداد في وفاته وحتى خصومه في السياسة توافدوا الى دارة عمر كرامي للعزاء والمشاركة في الدفن وتقبل العزاء بعد الدفن وإقامة الولائم على روح فقيد طرابلس الكبير. وتسابق كل من الرئيسين نجيب ميقاتي وسعد الحريري الى مبادلة الوزير كرامي الود والاحتضان. في المقابل لم يقصر فريق 8 آذار في إحتضان الرجل من الرئيس بري الى السيد حسن نصرالله الى ايران وسورية وسفيريهما في لبنان حتى الى اصغر كادر في فريق المقاومة والممانعة. ويرى هذا الفريق انه الاحق في صداقة وود آل كرامي. وهل هناك من تاريخ انصع من تاريخ آل كرامي من الرشيد الى عمر.

فيصل كرامي لم يحد اليوم عن ارث عمه ووالده فكان القدوة الحسنة والخلف الصالح لإكمال المسيرة بعدهما فصال وجال شاكراً على المؤاساة ولكنه اسس لمروحة واسعة من العلاقات السياسية التي كانت موصدة امام والده ربما بسبب الظروف وضراوة الاشتباك وقتها. وهو اليوم من حيث لا يدري امام مشهد طرابلسي ملائم تماماً لفكر ونهج واعتدال آل كرامي. فهو اطلق منذ اسابيع مبادرته لوأد الفتنة بين جبل محسن وباب التبانة ببركة روح الافندي عمر ومشهد وداعه الجامع ومثل الاعتدال الحقيقي الذي ينشده ابناء المدينة وتفترضه طبيعة الظروف المستجدة.

طرابلس تنزف رغم توقف الرصاص فيها وخطتها الامنية تتأرجح وقواها العسكرية امام تحديات يومية هي صامدة بفعل شجاعتها وصلابة قيادتها لكنها امام المحك والاختبار في كل لحظة لضبابية الموقف السياسي. فالكثير من قوى طرابلس التي كانت تصرخ خلال الاعوام الاربعة الماضية من عمر الازمة السورية بنصرة اهلها من السنة والثورة السورية تبين من خلال التحقيقات والاعترافات التي ادلى بها رموز التكفير والارهاب انهم ممولون ومدعومون ومستخدَمون وها هم يغسلون ايديهم ممن دفعوا بهم الى الهاوية.

طرابلس اليوم وبالمشهدية الجامعة لاعتدال آل كرامي امام فرصة ثمينة لعودة كل ابنائها ممن هجروا بحقد التكفير والعزل والتصفية من اهالي جبل محسن ومن اهالي باب التبانة وطرابلس العتيقة وعودة كل القوى السياسية والاقتصادية الى مكانها الطبيعي. وفتح باب المصالحة الحقيقية بين جميع ابنائها والتعويض على المتضررين واطلاق ورشة اعمار وانماء متوازن فعلية وما دون ذلك يبقى مجرد شعارات فارغة واستعراضات سياسية وكلام لا يستحق ثمن الحبر الذي كتب فيه ويدخل في هذا السياق بعض زيارات السفراء والوزراء واللقاءات الدينية والسياسية التي تخدم توجهاً ما وتستبعد اهل الحق الحقيقيين.