على الرغم من حالة الإحباط التي عمّت سكان المنطقة، على ضوء الإنتصارات التي حققها تنظيم "داعش" مؤخراً في سوريا والعراق، تلوح في الأفق ملامح تطورات مهمة على أكثر من صعيد، لا سيما أمنياً وسياسياً، وقد تكون الساحة العراقية هي الأكثر وضوحاً في هذه المرحلة، بعد سقوط الرمادي بيد التنظيم الإرهابي المتطرف.

طوال الفترة السابقة، كان التردد الغربي في "التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب" علنياً، عبر الإصرار على حصره بالغارات الجوية غير القادرة على تحقيق أي إنجاز نوعي، وعدم التعاون مع القوى البرية الفاعلة على أرض الواقع، في حين أن أغلب المحللين العسكريين والسياسيين كانوا يؤكدون بأن المطلوب البحث عن خيارات أخرى، لا سيما على الصعيد السياسي، حيث البيئة الكفيلة بتقديم المزيد من العناصر البشرية للجماعات المتطرفة، نتيجة التحريض المذهبي الواسع النطاق.

من وجهة نظر مصادر مراقبة، التطور الأبرز على الساحة الإقليمية كان الترحيب الأميركي بمشاركة قوات "الحشد الشعبي" العراقية، في معركة تحرير الرمادي من "داعش"، بعد ساعات قليلة على إنسحاب القوات العراقية الصادم، الذي دفع وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر إلى الحديث عن ظهور عدم رغبة القوات الحكومية بالقتال، ومن ثم محاولة نائب الرئيس جو بايدن التخفيف من حدة الأمر في إتصال هاتفي مع رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي.

وتشير هذه المصادر، عبر "النشرة"، إلى أن هذا الأمر كان يحظى بمعارضة أميركية وسعودية كبيرة، لكن واشنطن الراغبة في إدخال جميع القوى في حروب إستنزاف طويلة تخطت الأمر، في حين أن الرياض التي تعيش قلق الأوضاع الداخلية، بعد التفجير الإنتحاري في القطيف، رضخت للرغبة الأميركية الصارمة، على أمل مساعدتها في ضبط أوضاعها الداخلية.

وسط هذه الأجواء، كان إنسحاب قوات الجيش السوري من مدينة تدمر الأثرية، بقرار رسمي، بالرغم من أن فرص المواجهة كانت لا تزال قائمة، إلا أن ثمنها كبير جداً في ظل رفض الولايات المتحدة وحلفائها التعاون، لا بل محاربتهم السلطات الرسمية على الصعيد السياسي، عبر وصفها بـ"غير الشرعية"، وعلى الصعيد الأمني من خلال دعم مجموعات المعارضة المسلحة التي تصنفها "معتدلة" بالأسلحة المتطورة.

وفي الوقت الذي حاول فيه الكثيرون ربط هذا الإنسحاب بالعديد من السيناريوهات، فضلت الحكومة السورية سياسة "الصمت المربك"، ودفع الجميع إلى تحمل مسؤولياتهم، الأمر الذي إنعكس تطوراً في مواقف الجهات التي عبّرت عن رغبتها بالوصول إلى حل سياسي يمنع تمدد "داعش" باتجاه المزيد من المناطق.

بالنسبة إلى المصادر المراقبة، التنظيم الإرهابي لا يمكن أن يشكل إطاراً سياسياً لأي جهة إقليمية أو دولية، سواء كان ذلك في العراق أو سوريا، وبالتالي الخسائر الميدانية أمامه لا يمكن أن تحسب في الميزان السياسي، أما الحكومة السورية فهي باعتراف مختلف الجهات لا تزال اللاعب الأبرز على الساحة، خصوصاً أن أغلب السكان يفضلون الذهاب إلى المناطق التي تقع تحت سيطرتها، وفي آخر الإحصاءات يقطن نحو 60% من السوريين في هذه المناطق.

في الجانب الآخر تبدو الأمور مختلفة، أغلب القوى السورية التي تدور في فلك الغرب باتت تبحث عن حلول جذرية، لم تبدأ بمساعي فك الإرتباط بين جبهة "النصرة" وتنظيم "القاعدة"، ولن تنتهي مع مواقف قائد ما يسمى "جيش الإسلام" زهران علوش الجديدة، ولا حتى مع ظهور أمير "النصرة" أبو محمد الجولاني اليوم في حديث تلفزيوني، حيث ترى المصادر المراقبة أن هناك تنافساً بين كل هؤلاء في الحصول على صفة "الإعتدال" الإقليمية والدولية، التي تؤهل من يحظى بها إلى مرحلة الجلوس حول طاولة المفاوضات السياسية، خصوصاً بعد أن أثبتت الفصائل الأخرى فشلها في الميدان.

في ظل هذه التطورات، ترسم خطوط تماس دقيقة، ستضع أغلب الفصائل السورية، المحسوبة على قوى المعارضة، في صراع مع بعضها البعض، لا سيما جبهة "النصرة" و"داعش"، في سياق معركة إستنزاف طويلة قد تمتد لسنوات، إلا أن الأكيد فيها أن أحداً لم يعد قادراً على تغطية أي جماعة إرهابية، لا بل سيكون هناك شبه توافق على محاربتها، قد يظهر من خلال تفعيل العمليات العسكرية بشكل ملحوظ.

في التوقعات الأخيرة، يتحدث بعض المسؤولين الأوروبيين والأميركيين عن مواجهات قد تستمر نحو 20 سنة، ويعترفون بأن الحل الأمني لا ينفع وحده في معالجة الأزمة، لكن باستثناء مظاهر التقسيم التي بدأت تظهر تباعاً من بغداد ليس هناك من تصور كامل لمستقبل الأوضاع.