خمس عشرة سنة مرّت على انتصار المقاومة والشعب اللبناني على العدو «الإسرائيلي». وباعتقادي أن هذه المدّة كانت كافية ليتبيّن جميع اللبنانيين والعرب أهميّة وفرادة هذه التجربة التي نقلت لبنان من عصر المذلّة إلى عصر العزّة، ومن بلد الضعف إلى بلد القوة. وأعادت الاعتبار إلى شعوب الأمّة كلها التي ظنّت أنّه ليس بمقدور أحد هزيمة «إسرائيل» وأنّ طريق الاستسلام هو الطريق الأسلم. لكن المقاومة التي لم يكن عديدها يتجاوز بضع آلاف من المقاتلين، وإمكاناتها لم تكن ترقى إلى إمكانيّات أضعف جيشٍ عربي، استطاعت أن تغيّر المعادلة وأنّ تفرض على العدو هزيمة نكراء وانسحاباً مهيناً من الأراضي اللبنانية.

نعم، لولا المقاومة البطلة لم نكن في لبنان لننال العزّة، ولولا المقاومة وصمودها وإنجازاتها لما تغيّرت كل المعادلات السياسية والأمنية في وجه العدو «الإسرائيلي». هذه المقاومة بدعمٍ من الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة ومن سورية استطاعت أن ترسم واقعاً جديداً في المنطقة، وأن تلجم المشروع الأميركي و«الإسرائيلي» وتحدّ من اندفاعاته خصوصاً في حرب عام 2006.

خافت الأنظمة من انتصار المقاومة بعدما رأت صورة الأمين العام لحزب الله تُرفع في التجمعات الشعبية وتُعلّق على حائط كل منزل، وبعدما وجدت تطلعاً جديداً عند الشعوب لاستعادة الحقوق وتغيير الأوضاع. فهبّت تعقد الاجتماعات والمؤتمرات الدولية لشيطنة الحزب ومذهبته واعتبار المقاومة مشروعاً إيرانياً وصفوياً وشيعياً، وجاء كلام ملك الأردن عن هلالٍ شيعي ليرسم حدود الصراع بين جبهة تقودها أميركا وتضم «إسرائيل» ودولاً عربية سمت نفسها معتدلة، وبين كل من يؤمن بخط المقاومة في بحر الأمة الواسع. وهكذا جاءت حرب تموز العدوانية وبعدها الربيع العربي للقضاء على ثقافة المقاومة والذهاب إلى حرب استباقية تشتعل فيها نيران المذاهب والطوائف والقوميات إلى تأججها الأقصى وتتناحر فيها المكونات الدينية والسياسية بعضها ببعض. بالتالي إبقاء العالم العربي في دائرة التبعيّة أو إشغاله بحروب الفقر والجهل والعصبيات الجاهلية. ما حصل في العالم العربي بعد عام 2000 تقريباً هو جزء من مشاريع كي الوعي وإبعاد الناس عن خط المقاومة. نجح الطغاة في مواضع وأخفقوا في مواضع وكانت الأهداف بالنسبة إليهم واضحة، حرف مسار الشعوب العربية عن أهدافها في الحرية والاستقلال والوحدة والمطالبة بفلسطين. وفي لبنان بدأ العمل على تحميل الشعب اللبناني ثمن انتصارات المقاومة بالاغتيالات أو الفتنة المذهبية أو الخلافات السياسية. كان المخطط أن تُكشف المقاومة شعبياً وسياسياً وأن تبدأ السلفيات بالظهور لتشكك بمشروع المقاومة من أساسه فحصل ما حصل. وجاء اغتيال الرئيس الحريري في هذا السياق تماماً على رغم أنّ شعب المقاومة رفض الانسياق وراء الفتنة المذهبية والطائفيّة. واستعان بالتصبّر والتجلد لقطع الطريق على المصطادين بالماء العكر. ثم جاء العدوان على سورية ليرفع من مستوى التحدي لدى المقاومة. وباتت القوى المناهضة للمقاومة تتحدث أن لبنان بلد له خصوصيته الطائفيّة وتركيبته السياسيّة المعقدة، ولا يجوز للبنان إلا أن يكون محايداً. ولكن هذا لا يُبرر أن تتحول سياسة النأي بالنفس إلى سياسة ترفع الكلفة عن المسؤوليات والواجبات التي يُفترض بالحكومة اللبنانية أن تتحملها على الصعيد الداخلي والإقليمي. لأن الانكفاء السلبي لم يُحيد لبنان، بل جعله في قلب المخاطر الكبرى والتجربة معروفة إبّان الاحتلال «الإسرائيلي»، إذ أرادت الحكومات المتعاقبة أن تُبعد لبنان عن تأثيرات الصراع العربي-»الإسرائيلي» فلم تنجح لأنّ ذلك يخالف المنطق والمصلحة ولا يحقق الأمن والاستقرار بل يدفع بالعواصف من كل الاتجاهات لتهبّ عليه. فجاء حزب الله ليقول إنّ هناك ضرورة لتقييم الموقف السياسي لبعض القوى الحزبية اللبنانية على ضوء انكشاف الأبعاد الخفية للحرب التدميرية على سورية، لأن القضية باتت في الواقع تهدّد المجتمع اللبناني بأسره إذا ما استمر التعاطي مع الملف السوري من زاوية المشروع الغربي- الصهيوني الذي لا يهمه كل القتل والفتن التي تحصل في بلادنا بقدر ما تهمه مصالحه الاقتصادية والاستراتيجية. لذلك كان الحزب حريصاً على أن لا ينغمس الموتورون والحاقدون على سورية في لجة الدم من خلال مواقفه وتصرفاته. وكان واضحاً أنّ البعض من خلال مواقفه التصعيدية والنارية كان يريد أن يستجلب القوى الخارجية لضرب حزب الله.

وكانت قوى كثيرة حاسمة في قراراتها تفجير لبنان والأخطر هو دفع الجيش إلى حرب استنزاف فادحة التكاليف مع المقاومة.

لكن الأمور لم تجرِ كما كان هو المخطط. وجزء كبير من أحلام أميركا و«إسرائيل» تهاوى في لبنان، وكذلك في سورية والعراق.

وعلى رغم كل هذه الخسائر التي لحقت بالمشروع الأميركي الصهيوني، إلا أننا نسمع بين الحين والآخر تهويلاتٍ سياسية وإعلامية وعسكرية من لبنانيين سذج، وما زلنا نسمع التهديدات «الإسرائيلية» بحربٍ جديدة على لبنان ونعاين كل عام المناورات «الإسرائيلية» في البر والبحر التي لا تكاد تتوقف، لأنّ «الإسرائيليين» يعلمون هذه المرة أنّ فرصتهم في البقاء باتت معدومة، وأنّ غطرستهم إلى زوال وأنّ العصر المقبل لن يكون أميركياً ولا «إسرائيلياً» بل عصر المؤمنين الأحرار.

اليوم وأمام المتغيرات الكبيرة في العالم بأسره نشعر بضرورة الترابط العميق بين مصالح المقاومين في كل بلاد العالم. لأن المعركة اليوم هي معركة بين الحق والباطل، وليس في هذه المعركة حلول وسطيّة ولا يجوز أن يكون هناك متفرجون. هذه المعركة هي معركة العدل في العالم والسلام في العالم ولا معنى للعدل والسلام من دون قوّة. وكل من يسكت ويتخاذل ويجلس بعيداً في هذه المعركة يكون كمن باع دينه وشرفه وحياته ووجوده للآخرين من دون أن ينال أي مقابل.