إذا نَفَّذ الرئيس التركي رجب طيِّب أردوغان خطّته، واجتاحَ شمالَ سوريا عسكرياً، فهو لن يستطيع إصلاحَ المفاعيل التي ستترتّب على هذا الخطأ في الداخل التركي. إنّها على الأرجح ستكون «ساعة التخلّي» في تركيا، وسيَندم أردوغان، ولكن عندما لا يعود الندم نافعاً!

يحاول الجيشُ التركي إقناعَ أردوغان بخطأ إحراق الأصابع في الجحيم السوري. لكنّ الرئيسَ ورئيسَ وزرائه أحمد داود أوغلو يفكّران في اعتبارات أخرى. الجيش يحاذر القيامَ بمغامرة لا يغطّيها المجتمع الدولي، فيُترك الأتراكَ وحدهم في مواجهة المصير هناك. لكنّ منطلقات استراتيجية وعقائدية تدفَع أردوغان إلى التورّط، وتَكفيه التغطية الدولية الشكليّة.

بالنسبة إلى أردوغان، خريطة سوريا المستقبلية باتت واضحة. فالأكراد سيكونون جيرانَ تركيا الحدوديين، لا «داعش» ولا سواها. وهذا كابوس لتركيا. فهي لا تريد أن يتكرَّر في سوريا نموذج العراق، أي ولادة كانتون كردي على الحدود.

ولذلك، يتّهم الأكرادُ تركيا بدعم «داعش» ضدّهم. وقد لا يكون أردوغان راغباً في إطلاق العنان لهذا التنظيم، لما يشَكِّله مِن خطر على تركيا، لكنّه مضطرّ إلى دعمِه ضمنَ حدود ليكسرَ «شوكة الأكراد». ويحاولُ أردوغان الإيحاءَ بأنّه سيَدخل سوريا لمواجهة «داعش» والأكراد، لكنّه عمَلياً يستهدف الأكرادَ وحدهم بقطع أوصال منطقتهم.

الكابوس الكردي، في نَظر أردوغان، هو سيطرة الأكراد على الحدود كاملةً من القامشلي إلى البحر، في مسعى منهم لفتحِ منفَذ بحريّ لكردستان العراق، أي لدولتِهم المستقبلية الممتدّة مِن حدود إيران شرقاً، مروراً بكردستان العراقية والسورية.

فهذه الدولة المزدهرة اقتصادياً، تَقطع ارتباطَ تركيا الجغرافي بالعرب وتثير شهيةَ الأكراد الأتراك للحكم الذاتي أو الانفصال. وجاءت سيطرة الأكراد على تل أبيض معبّرةً. وأمّا كوباني ففشلَت «داعش» في احتلالها، وسط الشكوى من قيام الأكراد بتطهيرٍ عرقيّ في المنطقة.

ولذلك، وبأيّ ثمَن، يريد أردوغان أن يقطعَ دابرَ الدويلة المتوقّعة باجتياح الشمال السوري وتحويله «شريطاً حدودياً» شَبيهاً بالشريط الذي أقامته إسرائيل في جنوب لبنان. ويريد أردوغان أن يقنِعَ المجتمع الدولي بأنّ بقاءَه هناك موقوت بعامين أو أكثر، أي ريثما تستقرّ سوريا.

وفتحَ أردوغان حواراً مع روسيا وإيران لإقناعِهما بالعملية العسكرية، انطلاقاً من مصلحتِهما معاً بعدمِ قيامِ دولةِ كردستان. فالمنطقة الكردية العراقية محاذية لأكراد إيران. وأمّا الروس فهم أكبر المتضرّرين من قيام دويلات عرقية وطائفية في جوار الفسَيفساء الروسية.

وفي رسالةِ تطمينٍ إلى موسكو وطهران، يتجنَّب أردوغان استهدافَ المنطقة العَلوية. فقد توصَّلت المعارضة إلى منفَذ لها على البحر، عند فجوةٍ ضيّقة على الحدود السورية - التركية، لكنّ تركيا لم تدعمها. كما أنّها لم تُقدِّم للمعارضة أيّ دعم لمهاجَمة الساحل.

وفي تقدير أردوغان، لا يحتاج الأتراك إلى تغطية دولية مهمّة لدخول سوريا، لأنّهم يستنِدون إلى إتفاق أضَنة السرّي مع سوريا في عهد الرئيس حافظ الأسد، 1998. فآنذاك، هدَّدوه باجتياح شمال سوريا إذا لم يوقِف دعمَه لـ»حزب العمّال الكردستاني». فاضطرّ إلى تمرير «القطوع»، وأزال مخيّمات لتدريب الحزب في سوريا والبقاع اللبناني، وسَلّمَ زعيمه عبدالله أوجلان إلى تركيا.

لكنّ تفَكّكَ سوريا أنهى مفاعيلَ الاتفاق. وتعتبر تركيا أنّ الرئيس بشّار الأسد قامَ بتسليم المناطق الشمالية طوعاً إلى الأكراد. ويحاول الأتراك منعَ الأكراد السوريين من الاستقلال على طريقة استقلال الأكراد العراقيين. لكنّ الأكراد يقولون: عند تفَكّك العراق طالبَ الأتراك بنزع سلاح «البشمركة»، ففَشلوا. وهذا الوضع سيتكرَّر في سوريا.

وثمَّة انطباع بأنّ الدويلة الكردية في سوريا ستَنشأ كما شقيقتها في العراق. فالمنطقة كلّها تنحو إلى التقسيم، وهذا كابوس لتركيا داعمةِ المعارضة ولروسيا داعمةِ النظام. ولكن، لا قدرةَ لأحد على وقف المسار الاهترائي في معظم الكيانات الشرق أوسطية.

المطَّلعون يَعتقدون أنّ أيَّ «عاصفةِ حزم» تركيّةٍ في سوريا ستكون عواقبُها وخيمة على تركيا. فالاستقرار التركي يهتزّ سياسياً ومذهَبياً وعِرقياً. والانتخابات الأخيرة أظهرَت أنّ الأكراد هناك غلَّبوا النتائج. وقد ينجَح الأكراد في بناء دولة أو يَتعثّرون، لكنّهم مادة أساسية لتحريك اللعبة.

وللتذكير: الأكراد في العالم 36 مليوناً، نِصفُهم (18 مليوناً) في تركيا، أي نحو ربع السكّان. وفي تركيا ما بين 7 ملايين و10 ملايين عَلوي (بين 9% و13% من السكّان)، يَنتشرون والأكرادَ في الجنوب والشرق، ولا سيّما لواء الإسكندرون الذي منحَه الانتداب الفرنسي لتركيا في 1939.

إذاً، بذورُ الفتنةِ نائمة في تركيا. وأيّ مغامرة تركيّة ستكون غيرَ مضمونةِ العواقب في الداخل التركي المهتزّ، سواءٌ أكانت المغامرة تَحظى برعاية أميركية وإسرائيلية أم لا.

وهكذا يُحشَر أردوغان. فهو خائف على استقرار تركيا إذا تركَ الأكراد يتوَسَّعون في سوريا، وخائف على استقرارها مِن إعادة الحرب معهم. وفي الحالين، الخراب يَصعب ترميمه.

فأيّ يد تلك التي تَجعل الجميعَ في المآزق المستحيلة؟ وهل يَعمد أردوغان إلى هدم الهيكل على رؤوس الجميع، وفقَ مقولةِ «علَيَّ وعلى أعدائي يا رب»؟