الاشتباك السياسي الحاصل والذي دخل فيه المجتمع المدني طرَفاً مستقلاً سيأخذ مداه قبل أن يدخل في هدنة موقّتة، لكن وفق بروتوكول جديد يُلائم مرحلة الفراغ الرئاسي.

لم تكن الأحزاب السياسية على اختلافها مسرورة من الموقع الجديد الذي انتزَعته المنظمات والحَرَكات المنضوية في إطار الحراك المدني. صحيحٌ أنّ تيّار «المستقبل» كان المتضرّر الأوّل والمباشر من الحراك، إلّا أنّ التكوينات الحزبية الأخرى على اختلاف اصطفافاتها كانت متضرّرة ومنزعجة ضمناً، ولو بدرجات متفاوتة لإدراكها أنّ الناس سحبوا البساط من تحتها.

فالفساد الظاهر بوقاحة إضافة الى انكشاف التمويل الخارجي للبعض وسقوط الشعارات الكبرى التي رفضها البعض الآخر تحت وطأة الحسابات الخاصة والضيّقة، كلّ ذلك دفع بشريحة عريضة من جمهور الطرفين الى الإحباط، وكان من الصعوبة في مكان لهؤلاء الانتقال من معسكر الى آخر نتيجة هذا الشعور المرّ بسبب حدّة الاصطفاف خلال المراحل الماضية.

وجاءت «انتفاضة» منظمات المجتمع المدني لتمنح هؤلاء المساحة القادرة على اجتذابهم بلا أيّ إحراج. لذلك ضمّ الحراك المدني فئاتٍ واسعة شكّلت على امتداد الأعوام الماضية ساحاتِ النفوذ لانقسام «8 و14 آذار». لكنّ القيادات الحزبية تُراهن على «ضجر» سريع لهذا الخليط الشعبي في ظلّ الافتقاد الى قيادة واحدة وبرنامج واضح وجامع.

خلف هذه الصورة الضاغطة، بدا أنّ السفارات الغربية التي كانت تراقب عن كثب ما يحدث لم تكن سلبية إزاءَ هذه الصورة. فالتحرّك سمح باختراقات في المشهد المقفل والجامد بلا أفق منذ أعوام. صحيحٌ أنه انطلق عفوياً، لكنّ الاهتمام الاعلامي الدولي (CNN، FOX NEWS) يُعطي إشارة واضحة إلى الرضى الدولي.

فهذه مؤسسات لا تتحرّك بلا خلفية، ولفت كذلك تنديد الامم المتحدة باستعمال العنف وبدت الأوساط الديبلوماسية مرتاحة نتيجة عاملَين أساسيَّين:

الأوّل يتعلق بما وصلها من معلومات عن حصول توافق لا بل «تعاون» بين السلطات الأمنية اللبنانية و»حزب الله» في ما خصّ ظهور «عناصر» مندسّة نفّذت عمليات شغب. وبدت السلطات الأمنية اللبنانية ومعها الاوساط الديبلوماسية مقتنعة وفق معطيات حسّية وملموسة بعدم علاقة الحزب كقيادة وقرار بهذه العناصر. لا بل إنّ قيادة الحزب جدّدت التزامها الاستقرار الامني قولاً وفعلاً حسب شهادة الأمنيّين.

العامل الثاني يتعلّق بالاستقرار الحكومي، وتردّد أنّ المشاورات الجانبية التي نشطت قبيل انعقاد الجلسة الاخيرة لمجلس الوزراء والتي شكّل الرئيس نبيه برّي محوراً أساسياً فيها، اعتمدت تسوية تقضي بإصدار قرارات ملحة لكن معدودة في ظلّ غياب وزراء «التغيير والاصلاح» و»حزب الله»، في مقابل تعليق الجلسات موقتاً في انتظار تسوية كاملة تسمح بعودة الروح الى الحكومة.

صحيحٌ أنّ تعليق الجلسات سيمتدّ أسابيعَ عدّة، إلّا أنّ تفاهماً قد أرسيَ وجرى تأكيده مجدَّداً بضرورة عدم «تطيير» الحكومة في هذه المرحلة. وجاء كلام العماد ميشال عون الهادئ والمضبوط في مؤتمره الصحافي الاخير بعد تأجيل أوّل مؤتمر له ليؤكّد هذا المبدأ.

لكنّ ذلك لا يعني العودة من دون ثمن، ذلك أنّ آلية انعقاد الحكومة واتخاذ القرارات ستلحظ الموقعَ الاساسي لعون وعدمَ تجاوزه بعد الآن، على أن يترافق ذلك مع إعادة فتح قاعة مجلس النواب وإيجاد حلٍّ ما لمطالب عون الادارية والعسكرية.

لكنّ الهدنة التي ستلي الاشتباك السياسي ستكون فترة استراحة قبل اندلاع اشتباك جديد بعد فترة، وسيكون للحراك المدني حصّته. فساحة لبنان تشكّل امتداداً للصراع الكبير المستمرّ في المنطقة. وقيل مثلاً إنّ وزير الداخلية نهاد المشنوق تلقّى تهديداتٍ بعدما أعلنت السعودية عن تسلّمها المطلوب رقم واحد لديها بعد توقيفه في مطار بيروت.

وفي لبنان، هناك مَن ينتظر انتهاء معارك الزبداني لتبدأ «حملة» عسكرية لما تبقّى من جرود القلمون وعرسال والتي من المفترض أن تنتهي قبل حلول فصل الشتاء. كلّ ذلك سيدفع في اتجاه تأزيمٍ داخلي جديد. وهناك مَن يعتقد أنّ سلسلة الأزمات التي ستتواصل وسط الفراغ ووفق مسار طويل، ستنتهي بدستور جديد.

في المقابل، هناك مَن يُعوّل على ضغوط داخلية تواكب الحركة الاقليمية الناشطة ولكن لإنجاز تسوية يكون أحد بنودها إنتخاب رئيس للجمهورية، وأنّ الحراك المدني سيكون عاملاً مساعداً.

فالملك السعودي يستعدّ لزيارة واشنطن على رأس وفد حكومي عريض حيث سيَبحث في تسوية لليمن، قبل أن يزور الرئيس الايراني باريس المهتمّة بالملف اللبناني. وما بينهما ضغوط هائلة في سوريا، ففي الشمال دخول تركي ضمن اطار دولي من خلال مشاركة الطائرات في قصف مواقع «داعش»، لكنها خطوة تحمل في طياتها العداء التركي لفكرة بقاء الرئيس بشار الاسد.

وفي دمشق ارتفاع منسوب الضغط من خلال القصف المستمرّ، في وقت تتزايد فيه مواقف المسؤولين الغربيّين حول حتمية حصول التغيير على مستوى رئاسة سوريا. واضح أنّ كلَّ ذلك يدخل في إطار رفع منسوب الضغط لا أكثر، فيما تستمرّ في المقابل تحضيرات كاملة لمرحلة من الضغوط العسكرية لن يكون أحدُها قصيراً.

العارفون يقولون إنّ إيران صاحبة الباع الطويل في السلوك السياسي لا تزال ترى أنّه من المُبكر جداً الرهان على تسويات سريعة. فالاتفاق النووي أمامه فترة زمنية ليُصبح ناجزاً.

وبعدها هناك فترة طويلة مخصّصة لإنهاء رفع العقوبات قبل أن تبدأ المفاوضات الجدّية التي لا تزال تحتاج لأحداث ميدانية كبرى تُسهم في إنضاج الحلول... ما يعني أنّ إيران قد لا ترى إمكانية ظهور حلول لا في ما تبقى من العام 2015 ولا حتى سنة 2016، وأنّ الضغوط التي باشرت العواصم الغربية تنفيذها يحدّها سقفٌ لا يمكن الهروب منه، وهو سقف الارهاب وبالتالي تطويق «داعش».

فقد رفعت فرنسا مثلاً من درجة تأهّبها الأمني بعد ورود معلومات عن اعتداءات جديدة تُحضَّر، ومن بينها الاعتداء على مرافق حيوية وعلى طائرات مدنية بإطلاق صواريخ عليها من مناطق قريبة من المطارات بعد ورود معلوماتٍ عن نجاح خلايا متطرّفة في إدخال هذا النوع من الصواريخ الى اوروبا. قد يكون ذلك صحيحاً لكن لا يجب إغفال تحرّك المجتمع المدني...