لا يُمكن لأحد أن ينكر حجم المُشاركة الواسعة للتظاهرة التي جرى تنظيمها في ​ساحة الشهداء​ يوم السبت الماضي لكن من دون تبنّي الأرقام الخياليّة التي جرى تسويقها من قبل البعض، ولا يُمكن لأحد أن ينكر الدوافع النبيلة للكثير من المُتظاهرين الذين شاركوا ميدانياً لكن ليس كلّهم، ولا يُمكن لأحد أيضاً أن ينكر أحقّية العديد من الشعارات المرفوعة لكن ليس كلّها. وفي كلّ الأحوال، إنّ السؤال الأهم الذي يفرض نفسه في ظلّ النيّة الواضحة بإستمرار هذه التظاهرات الشعبيّة هو: هل سينجح المُتظاهرون بتحقيق التغيير المنشود؟

قبل مُناقشة مدى إمكان نجاح هذه التظاهرات الشعبيّة، لا بُدّ من التوقّف عند الفئات التي شاركت يوم السبت والتي شكّلت بعضها مع بعض، عشرات الآلاف من المُتظاهرين الرافضين للواقع القائم والمُطالب بالتغيير. وفي هذا السياق، ضمّت التظاهرة:

أوّلاً: مجموعات من المُجتمع المدني التي هي أساس أيّ دولة حضاريّة، وأي مُجتمع مُثقّف، وهذه الفئة هي التي منحت تظاهرة السبت وغيرها، وجهها الحضاري الراقي. والفئات الشعبيّة التي ساندت مطالب هذه الجمعيّات الأهليّة كانت العصب المُتمدّن للحراك الشعبي المُناهض للفساد، والرافض للطبقة الحاكمة بكامل رموزها ومن دون أيّ إستثناءات كما يحلو لبعض الشخصيّات السياسيّة الإيحاء، أو كما يحلو لبعض المُناصرين رفع رموزهم إلى مواقع غير قابلة للمسّ.

ثانياً: مجموعات من الشباب الثائر بحقّ على دولة فاشلة، وعلى سياسيّين فاشلين لا يُنفّذون شيئاً من وعودهم ولا يُطبّقون شيئاً من شعاراتهم الزائفة، وهذه الطبقة الشبابيّة أضفت الحيويّة المنشودة والديناميّة المطلوبة لضخّ الدم الشبابي الضروري في أيّ تظاهرة، على الرغم من أنّ أحلام المُراهقين والشبّان والشابات في العشرينات من عمرهم، غالباً ما تصطدم بالواقع المُختلف والصعب للحياة، إن على المستوى الشخصي أو على المستوى الجَماعي.

ثالثاً: مجموعات من الغاضبين على قوانين تنظيميّة للدولة، بدءاً بالمُستأجرين الذين يرفضون أن يُعاد لصاحب الملك حقّه العادل والمنطقي عبر رفع تسديداتهم الشهرية بشكل تدريجي على مدى سنوات طويلة، مروراً بمُعارضي قانون السير الجديد الذين يُريدون الحفاظ على الفوضى وعلى القيادة اللاأخلاقيّة التي إعتادوا عليها، وُصولاً إلى المُطالبين بإقرار سلسلة الرتب والرواتب التي تُنصف فئات مُحقّة، وفي طليعتها القوى الأمنيّة المظلومة برواتبها الزهيدة على الرغم من دورها وتضحياتها الكبيرة، لكنّ التي تظلم فئات عُمّالية أخرى لم تشملها عمليّة رفع الرواتب، علماً أنّ أيّ خطوة غير مدروسة في إتجاه رفع الرواتب من دون تأمين التغطية المالية الضروريّة لها، ستتسبّب بنتائج عكسيّة، لجهة التضخّم الفوري للأسعار والفقدان الفوري للقيمة الشرائيّة.

رابعاً: مجموعات حزبيّة مُبطّنة، ضمّت أنصار ​الحزب الشيوعي​ بفروعه السابقة والحالية، والناقم دائماً وأبداً على كلّ الحكومات، وعلى الرأسماليّة، وعلى كل أوجه الغنى والرفاهيّة، وأنصار بعض الأحزاب والجمعيّات السياسيّة المُندثرة والمُنفصلة عن الواقع وعن الزمن الحالي، والتي تُحاول تبنّي مطالب المُتظاهرين للظهور الإعلامي لا أكثر، على أمل العودة إلى عمل سياسي فقدته منذ سنوات أو حتى منذ عقود. وكان لافتاً مُحاولة مجموعة من النوّاب السابقين الذين خسروا مقاعدهم ومواقعهم الإنخراط بين المُتظاهرين، وكأنّ الشتائم ضُدّ السياسيّين الحاليّين تستثنيهم، شأنهم في ذلك شأن بعض الشخصيّات السياسيّة التي خرجت أو أُخرجت من أحزابها السابقة، وصارت تبحث عن دور سياسي مفقود في أي مكان يتجمّع فيه أكثر من عشرة أشخاص. وفي السياق نفسه، يدخل حضور بعض الفنّانين والفنّانات من مختلف الميادين، علماً أنّ مُشاركة هؤلاء تهدف إلى تأمين شعبيّة إضافية لأعمالهم على إختلاف أنواعها.

خامساً: مجموعات من العاطلين عن العمل، ومن الأمّيين وزُعران الشوارع، والتي تترصّد بشوق مناسبات مُشابهة، لمحاولة تعميم الفقر الذي تعيشه والفشل الذي تتخبّط فيه والغوغاء الذي يُحرّك أفعالها، على الجميع، عبر تطبيق سياسة التحطيم والتكسير والشتم وتعميم الفوضى. وإضافة إلى ذلك، تسرّبت بين صُفوف المُتظاهرين مجموعات مُناصرة لأحزاب معروفة، ما سمح لها بتفريغ الحقد الدفين في قلوبها على القوانين والنظام والقوى الأمنيّة على إختلافها.

في الختام، من الطبيعي أن تُسارع وسائل الإعلام كلّها للإيحاء بأنّها تدعم المُتظاهرين ومطالبهم، ومن الطبيعي أن تُبدي أغلبيّة واسعة من المواطنين تأييدها النظري لهم، لأنّ أحداً لا يُمكنه الوقوف بوجه بعض الشعارات البرّاقة المرفوعة، ولأنّ أحداً لا يُمكنه الدفاع عن أيّ شخصيّة سياسيّة مُتواجدة على الساحة اللبنانيّة من دون الشعور بالإحراج وبالإرباك. لكنّ التظاهرات التي تضمّ في صفوفها فئات غير مُترابطة وشعارات غير مُتناسقة ومطالب غير مُنسجمة، لا يُمكن أن تصل إلى نتيجة. والأكيد أنّ تظاهرات عشرات آلاف الغاضبين "من كل وادي عصا" لن تُغيّر شيئاً في الواقع القائم. فالطبقة السياسيّة محميّة بطوائفها وبمذاهبها وبمواقعها السياسيّة، والحكومة الحالية جاءت باتفاق سياسي بين القوى المحلّية والإقليميّة الفاعلة، وهي لا تَسقط إلا عند وجود قرار سياسي داخلي وإقليمي بإسقاطها، وليس بشعارات "​طلعت ريحتكم​" و"​بدنا نحاسب​" وغيرها من أحلام اليقظة. صحيح أنّ بضع آلاف مواطن إستفاقوا من "غيبوبتهم" السياسيّة والإجتماعيّة، لكن عدد المُتمسّكين بهذه "الغيبوبة"، عن وعي إرادي كامل أو من دون إدراك، أكبر بكثير!