يقول الزعيم الراحل كمال جنبلاط في وصيته السياسية: "الحقيقة أن لبنان الكبير أنشىء لأجل الموارنة". جاء هذا الإعتراف في عز الحرب اللبنانية، ورغم اعتقاده الراسخ انه لا حياة للبنان خارج التكوين الجغرافي السوري، الا انه كان يدرك نعمة العيش في هذه الواحة السياسية وسط "السجن العربي الكبير".

هذا التميز اللبناني تمظهر على شكل عنصري برز اثناء الحرب في شعارات أحد الأفرقاء. تلك الشعارات التي تعبر عن مكنونات خوف تاريخية في الوجدان الشعبي المسيحي غير المؤدلج ماركسياً أو عروبياً. هذا الخوف أساسه ديني لا قومي أو عرقي. لذا فهو محفور عميقاً في النفوس، ولا يظهر الا في الملمات والمخاطر الوجودية.

فكما تجد الزعيم المسلم السني العلماني يؤوب الى قطيعه الطائفي في الملمّات، كذلك يفعل العلمانيون المسيحيون عندما تقع الواقعة. وهذا بتأثير حالة الإستقطاب الطائفي والمذهبي التي عصفت بلبنان.

ومن سخرية القدر أن الحرب اللبنانية بدأت تحت شعار نزع امتيازات المارونية السياسية، والمطالبة بعدالة المشاركة، واليوم اصبح المسيحيون يطالبون بنزع امتيازات المسلمين بعد الطائف، وبعدالة المشاركة التي اختل ميزانها لمصلحة الطرف الآخر.

وكما كان الوضع في الماضي، اطراف المارونية السياسية تتقاسم القوى الإسلامية وتحارب بها بعضها بعضاً، اليوم انقلبت الآية فنجد السنية السياسية والشيعية السياسية تتقاسمان وتتحاربان بالقوى المسيحية.

اليوم تستشعر القيادات المسيحية خطراً حقيقياً دفع القطبين الأساسيين منها: "التيار الوطني" و"القوات اللبنانية" للإلتقاء للمرة الأولى على رؤية موحدة تجاه الأزمة السياسية في البلد. ولو استقرأنا تسلسل الوقائع لوجدنا أن "القوات اللبنانية" هي التي انضمت الى موقف "التيار"، الذي استشعر عن بعد تأثير الواقع الإقليمي المتفجر، وانحاز مبكراً الى الحلف الضامن للوجود المسيحي في المنطقة، حتى لو سمي حلف الأقليات.

اليوم يبدو أنّ "القوات" ادركت أخيراً، وبعد ترك المكابرة، ان هناك خطراً وجودياً يحدق بمسيحيي لبنان، وأن المحور الذي انضموا اليه للتفوق على اخصامهم في الساحة المسيحية، لا يبدو انه يرغب، أو يقدر على فعل شيء لحمايتهم من خطر الأصولية الاسلامية المتمثلة بالتنظيمات التكفيرية. بل أن هذا المحور ما اعتاد الا ممارسة شراء الذمم والأصوات، على صعيد المنطقة والعالم وليس في لبنان فقط، وهذه تسريبات ويكيليكس السعودية توضح طريقة عمل هذا المحور. وقد كانت خطاباتهم جميعها موجهة ضدّ "حزب الله"، ومتجاهلة لخطر التكفيريين، وحتى في معرض استنكارهم لجرائمهم، يعمدون الى التصويب على "حزب الله" واعتبار أن لا فرق بينه وبينهم.

هناك مثل إيطالي يقول "تجوع الحرة ولا تأكل بأثدائها"، فهل انتم مهددون بالجوع حقاً؟ هل أن السبل مقفلة عليكم ولا سبيل الا ممارسة الدعارة السياسية مع المحور الخليجي؟ لطالما إفتخر اللبنانيون، وخاصة المسيحيون منهم، بأنهم ملأوا دنيا الإغتراب في الشرق والغرب، ووصلوا الى اعلى المناصب، وأصبح اللبناني في بعض المغتربات رمزاً للنجاح والإبداع، فلماذا الرضا بالإذلال والإستتباع السياسي، والذمي، لسمو الملك الفلاني والأمير الفلاني؟

أي علاقة أخوة عربية مدعاة عندما تلجأ الدول الخليجية للتهديد بطرد العاملين المغتربين لديها لتطويع الطوائف اللبنانية؟ وكأنها تتصدق عليهم بالمال! وتنسى انهم من رواد نهضة الخليج الإقتصادية.

لماذا لا نرى شعارات السيادة والعنفوان اللبناني بوجه عمليات شراء الذمم التي يمارسها المحور الخليجي ومن وراءه؟

الأصولية الإسلامية الممثلة بالوهابيين والإخوان المسلمين، لا تقبل شريكاً مسيحياً معها، فأصول الحكم عندهم لم تتبدل أو تتطور منذ عهد الخلافة الأموية الذي أسس فقهياً لأحكام أهل الذمة، وهذا التأسيس غير قابل للنقاش والمراجعة، بسبب اغلاق باب الإجتهاد عند السنة. لذلك شاهدنا الوضع المزري الذي وصل اليه أقباط مصر في عهد الإخوان، رغم براغماتيتهم العالية التي سمحت لهم بإقرار اتفاق السلام مع اسرائيل، الا انهم لم يتمكنوا من النظر الى الاقباط بغير منظار اهل الذمة.

هذه ليست دعوة لترك محور سني والإنضمام الى آخر شيعي، فعند الأخطار الوجودية تسقط الخلافات التكتيكية، وكما اجتمع الجنرال والحكيم ذات مرة بين جولتي قتال واتفقا على ان ما يجمعهما هو"القضية" وهو عنوان كراس كان يحمله عون بيده. اليوم مطلوب تحديد ما القضية التي يجب النضال من اجلها؟ فليوضع دفتر شروط للشراكة والتحالف ومن يقبل به فهو مرحب به. وكما ان النبرة الاسلامية الاصولية غير محبذة عند الحديث تحت سقف الوطن، فإنه يجب أن يكون دفتر الشروط وطني وخال من أي نفس اصولي مسيحي. الحل بترسيخ المواطنة والمساواة عندها تعود الهوية الطائفية الى جحرها في الضمير الشخصي لكل مواطن، كما هو الحال في دول العالم المتطورة، أو كما كان الحال في سوريا قبل الفوضى.