قبل اسابيع قليلة، اعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري الموت السريري لقوى 8 و14 آذار(1)، ولم تكن الانتخابات البلدية قد اجريت بعد ولو في مرحلتها الاولى، لكن المسألة كانت متعلقة بالعمل التشريعي لمجلس النواب وبالخلاف الحاصل على المشاركة المسيحية وقانون الانتخاب.

مرت هذه التسمية مرور الكرام، لكن من يعرف بري وبغض النظر عما اذا كان يؤيده او يخالفه الرأي في السياسة، يدرك ان كلامه لا يأتي من فراغ، وان قوله هذا هو توصيف دقيق للصورة السياسية الحالية في لبنان. ولم يتأخر الجميع في ادراك صوابية ما قيل، وكانت الانتخابات البلدية باكورة الدلائل الحسية الملموسة والرسمية على "انفراط" عقد القوّتين السياسيتين.

كان الخلاف بين 8 و 14 آذار جذرياً ويتناول مسائل اساسية ووجودية بالنسبة الى لبنان والى الشخصيات التي اعلنت انتماءها الى كل من القوتين، وكان الموقف من سوريا اساس الخلاف بينهما الذي وصل الى حد ان اللون الابيض بالنسبة الى احدهما يتحول بشكل آلي الى لون اسود بالنسبة الى الآخر.

مع مرور السنوات، تغيرت المعطيات وباتت شبكات التواصل تمتد بين مختلف الافرقاء، الى ان وصلت الى التشابك التام بفعل الانتخابات الرئاسية واصبحت اكثر تعقيداً في الانتخابات البلدية. اليوم، باتت الصورة واضحة، والشلل التام يخيّم على الفريقين، ولكن سبب الوصول الى هذه الحالة يمكن ان يُنسب الى رواية قد تعبّر بشكل حسّي عن الواقع، تحولت الى مسلسل سيطر على افكار اللبنانيين في السبعينات هو "عشرة عبيد زغار"(2).

واذا تغاضينا عن العنوان (الذي يرى فيه البعض انه يحمل عنصرية مرفوضة في كل زمان ومكان)، نرى ان مكونات كل من 8 و 14 آذار تحولت الى شخصيات هذه الرواية-المسلسل، فأصبح الشك والقلق يرافق كل مكون في كل فريق، ويتسابق كل منها الى زرع الشقاق والخلاف وتوسيع الهوة مع المكون الآخر ضمن القوى نفسها وشرذمة الصفوف، الى ان وصلت الامور الى حد "الموت السريري" الذي ينتظر قرار حلّ "الموت الرحيم".

رسّخت الانتخابات البلدية ما كان معروفاً منذ فترة وهو ان الجميع كان خاسراً حتى لو فاز، وهو ما لمسه السياسيون وزعماء الاحزاب في المرحلة الاولى، وسيترسخ بشكل اكبر في المراحل اللاحقة. واختلطت السياسة بالمصالح وتبادلت احزاب عدة كراسيها في 8 و14 آذار. فالاحزاب المسيحيّة التي ربحت تحالف "القوات" و"التيار الوطني الحر"، خسرت نسبة كبيرة من اتباعها الذين لم يستوعبوا بعد ما حصل، و"انتفض" البعض منهم على قرارات القيادة ما ادّى الى اعلان استنفار شامل من قبل الزعماء انفسهم وألقوا بثقلهم لتحقيق الغاية المرجوة وانقاذ ماء الوجه، فكانت خسارة "العبد الاول من العبيد العشرة".

اما تيار "المستقبل"، فهو فاز بانتخابات بيروت البلدية ولكنه خسر هيبته وفارق الاصوات الكبير الذي كان يحققه عند كل استحقاق، كما خسر اصوات العديد من حلفاء الأمس الذين سيجدهم في وجهه في المراحل المقبلة. دخل الشك الى "تيار المستقبل"، خصوصاً وان يوم الانتخاب كاد ان يتحول الى "يوم انقلاب" لولا التعبئة العامة التي حصلت عصراً ، وهذا الأمر من شأنه التقليل من القوّة التي يمثلها التيار في الحياة السياسية وفي استحقاقات اخرى، وقد لا يحظى بعد فترة من الوقت بحصريّة القرار السنيّ الذي كان يمتلكه لعقود من الزمن، وهو يلوم بالطبع الشيعة والمسيحيين. وهنا سقط اكثر من "عبد زغير من العبيد العشرة".

وفي ما خص الطائفة الشيعية، قد تبدو الاكثر استقراراً، خصوصاً وان القوتين الاساسيتين اي بري و"حزب الله" يحافظان على التوازن بينهما، فحين تهدد الامور بمرحلة شد الحبال، يرخي احدهما طرف الحبل، فتبقى العلاقة صامدة وقائمة وتريح الاثنين من تداعيات لا يرغبان في مواجهتها في الوقت الراهن، ويفضلان ارجاءها الى موعد تحدده الظروف والايام، ولكن اياً منهما لم يعمل للملمة شتات "​8 آذار​" كما يجب بل اكتفيا بابقائها على قيد الحياة شكلاً لا مضموناً، وكان سقوط الباقي من "العبيد الزغار".

باختصار، من المؤكد ان فعاليات قوى كل من 8 و14 آذار هي المسؤولة عما وصلت اليه الامور من موت سريري، وعدم الثقة السائدة فرضت البدء برسم صورة سياسية جديدة للبنان وللقوى فيه، وستكون الامور غامضة بشكل تام في المرحلة المستقبلية التي ستشهد غياب الزعماء الحاليين، فكيف ستتم التحالفات ووفق اي قاعدة ستنسج العلاقات؟ ان الغد لناظره قريب.

(1)بتاريخ 25/4/2016، اعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري في مؤتمر صحافي أنّ " ... ما يحصل حولنا ومنا وفينا من داخلنا ومن خارجنا يؤكّد الموت السريري لما يسمّى 8 و 14 آذار، هذا واقع، فالمعايير والامور كلها اختلفت. "

(2)مسلسل لبناني مأخوذ عن رواية الكاتبة الشهيرة اغاثا كريستي (لعبة الموت)، وتم بثه في سبيعنات القرن الفائت بالاسود والابيض، قبل ان يعاد انتاجه بنسخة جديدة.