قد تكون هذه من المرات القليلة، التي تضطر فيها الولايات المتحدة الأميركية إلى بذل الكثير من الجهود لتبرئة نفسها، من محاولة الإنقلاب الفاشلة في تركيا، نظراً إلى التداعيات الخطيرة التي قد تترتّب على صعيد علاقاتها مع حلفائها في منطقة الشرق الأوسط في حال تم إثبات العكس.

منذ الساعات الأولى لبدء تحرك الإنقلابيين، عمدت واشنطن، على لسان كبار المسؤولين فيها، إلى التأكيد أن لا علاقة لها بما حصل، بالرغم من تواجد المتّهم الأول بالوقوف وراء الإنقلاب، المعارض فتح الله غولن على أراضيها، لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يشمل أيضاً الموقف الملتبس في بداية تحرك القطاعات العسكرية، حيث كان وزير الخارجية جون كيري يأمل استمرار السلام والاستقرار في تركيا، في حين كانت وسائل الإعلام تنقل عن مصادر أميركية معلومات عن طلب الرئيس التركي ​رجب طيب أردوغان​ اللجوء إلى ألمانيا.

لم يعمد البيت الأبيض إلى إعطاء الموقف النهائي مما يحصل، قبل التأكد من حسم الرئيس التركي الأوضاع لصالحه، عندها خرج الرئيس الأميركي ​باراك أوباما​ ليعلن دعمه الحكومة المنتخبة "ديمقراطياً"، داعياً إلى تجنب أي عنف أو سفك للدماء، الأمر الذي رأى فيه أغلب المراقبين، في ذلك الوقت، مؤشراً على فشل الإنقلاب، فواشنطن لا تغامر بإطلاق مواقف "عاطفية"، قد تؤدي إلى الإطاحة بمصالحها، وتفضل التريث لحين معرفة الخيط الأبيض من الأسود، لكن ماذا لو نجح الإنقلاب؟

يمكن الجزم بأن الموقف الأميركي، فيما لو نجح الإنقلاب العسكري، كان سيكون مؤيداً له، أو على الأقل من الداعين إلى تجنب العنف وسفك الدماء والإنطلاق نحو إجراء إنتخابات برلمانية ورئاسيّة جديدة، لكن بالتأكيد لن يكون داعماً لحكومة منتخبة "ديمقراطياً" بأي شكل من الأشكال، فالدول الكبرى تبحث عن مصالحها دائماً، ولا يمكن أن تتمسك بنظام بات من الماضي، والدليل هو الموقف مما حصل في مصر، عند إسقاط الرئيس السابق محمد مرسي من قبل الرئيس الحالي ​عبد الفتاح السيسي​، فلماذا لم يعمد أوباما حينها إلى الدفاع عن الديمقراطية، مع العلم أن مرسي، بغض النظر عن الموقف منه، هو رئيس منتخب من الشعب، وكان من المصنّفين على لائحة حلفاء واشنطن لا العكس؟

الفرق بين الحالتين المصرية والتركية هو النتيجة، ففي القاهرة نجح الإنقلاب لكنه فشل في أنقرة، أما واشنطن فهي لم تتعامل بموقف واحد مع الحدثين، نظراً إلى أن مصالحها على المحك، وهو ما يجب أن يكون المعيار الأساس لفهم السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط، فالدولة التي تجاهر بالدفاع عن الحرية والديمقراطية للمساعدة على إسقاط هذا النظام أو ذاك، لا تتأخر عن إنقاذ آخر يُصَنَّف من غالبيّة المنظمات الإنسانية والحقوقيّة بأنه لا يحترم رأي شعبه، أو على الأقل لا يمتلك الشرعية الديمقراطية لبقائه في الحكم، ففي حال إندلاع ثورة أو قيام إنقلاب في أيّ دولة حليفة لواشنطن ستعمد الأخيرة إلى الإنتظار بعض الوقت، أي لحين إتضاح مسار الأحداث، وبعدها تؤقلم موقفها مع النتيجة، فهي كالمشجع في كرة القدم الذي لا يدعم فريقاً على حساب آخر، لكنه يحب اللعب النظيف، ويكون دائماً مع الرابح.

ما تقدم لا يعني أن ما حصل سيمر مرور الكرام، حيث سيكون على واشنطن معالجة أزمة تواجد غولن على أراضيها، في ظل المطالب التركية بتسليمه لها، لا سيما بعد تأكيد أردوغان أن بلاده ستعتبر أي دولة تؤمن الحماية له معادية، لكن هذه المعادلة لن تكون سهلة على الإطلاق مهما كان القرار الأميركي، فرفض التجاوب يعني خسارة العلاقة المميزة مع أنقرة، في حين أن الخيار المعاكس سيكون له تداعيات كبيرة على سمعة الولايات المتحدة، الأمر الذي لا يمكن التكهّن به على الإطلاق، لأنه سيكون متوقّفاً على تطور الأحداث في الأيام المقبلة.

في المحصلة، وجدت واشنطن نفسها مع الإنقلاب التركي الفاشل أمام أزمة جديدة، لم تكن تتوقع أن تكون على هذا النحو، كما أن الأنظمة الحليفة لها سيكون عليها التفكير ملياً، في ما سيكون عليه الموقف الأميركي في حال حصل معها ما حصل مع أردوغان.