منذ أن أنشأ آل سعود مملكتهم في شبه الجزيرة العرب وهم يحملون السيف في وجه كل من جاورهم، لبسط نفوذهم وتوسيع مملكتهم على حساب الدويلات والإمارات المجاورة من جهة، ولنشر مذهب حليفهم "الوهابي" وسلالته "آل الشيخ"، وجيشهم المشترك الذي سمّوه منذ 260 عاماً "جيش الإخوان" من جهة ثانية. هكذا أعملوا سيوفهم في رقاب جماعة "شريف مكة" الحسين بن علي، وفي آل الرشيد وغيرهم، وهكذا وصلت "غزواتهم" إلى الجهراء في الكويت، وإلى كربلاء في العراق، واقتطعوا الجزء البري من قطر، واستولوا على نجران وجيزان وعسير اليمنية، وماتزال أطماعهم تسابقهم، علما أنهم لا يعترفون بوحدة عربية ولا حتى بعروبة، فمذهب "الوهابية" أممي، هذا إذا أدرك حاملوه - على تخلُّفهم - معنى كلمة أممية.
كان لبنان بمأى عن النفوذ السعودي، إلى أن اشتدت الحرب الباردة عالمياً بين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة، وانعكست عربياً بقيام ثورة 23 تموز في مصر، والتي ناوأت الاستعمار وصنيعته "إسرائيل"، وقال جمال عبد الناصر قولته المشهورة: "على الاستعمار أن يحمل عصاه على كاهله ويرحل، أو يقاتل حتى آخر رجل".
كانت السعودية منذ ظهورها السياسي صنيعة للاستعمار البريطاني، والإنكليز لم يخفوا في وثائقهم المتعلقة بذلك، وعندما انتقلت قيادة الغرب الاستعماري إلى واشنطن، نقلت السعودية تبعيتها إلى الأميركيين، وهكذا برزت المملكة عدواً قوياً لمصر الناصرية، وحليفاً غير معلن للمشروع الصهيوني الذي أنشأه الإنكليز، وانتقلت حمايته فيما بعد، كالسعودية، إلى الولايات المتحدة الأميركية.
بعد رحيل جمال عبد الناصر حلّت المرحلة السعودية، وأصبح نظام آل سعود ومن يواليه هو "النظام الرسمي العربي"، ولم يخرج هذا النظام عن الدور المرسوم له، فتآمر على المقاومة الفلسطينية، وعلى كل نظام أو حالة عربية ترفض المشروع الصهيوني أو تصطدم مع السياسات الأميركية والغربية في المنطقة.
هكذا في ظل هذا المناخ قرّرت السعودية ضم لبنان إلى نفوذها عبر ما بات يُعرف بـ"الحريرية السياسية"، فأغدقت الأموال لشراء الضمائر والذمم في لبنان وسورية، وعندما تحوّل الرئيس رفيق الحريري، بحكم الواقع اللبناني، من مشروع هيمنة سعودية إلى شبه حليف للمقاومة، ويعقد اجتماعات أسبوعية مع قيادتها، وينسّق معها في كثير من الأمور، قرر الحلف الأميركي - الصهيوني، ومعه أدواته في السعودية، أن يحققوا بدماء رفيق الحريري ما عجزوا عن تحقيقه بقامته، فقتلوه وألصقوا التهمة بسورية، وعندما اكتشفوا أن ذلك لن يفيدهم في التخلص من المقاومة، التي شكّلت خلال العقود الأخيرة آخر وأقوى العقبات في وجه المشروع الصهيوني الاستعماري، سمحوا لسعد الحريري أن يزور دمشق وينام في قصر الرئيس بشار الأسد، ومنذ ذلك الوقت تتّهم أدوات أميركا في المنطقة الأسد بقتل الحريري، يوماً، وفي اليوم الآخر تتهم "حزب الله" المقاوم، في تعبير عن التأزّم الذي يعانيه معسكر أميركا وحلفائها، والذي سجل الفشل تلو الفشل، سواء في تحقيق أهداف غزوه للعراق، أو في فشله في إسقاط الدولة السورية وقيادتها ومؤسساتها، ولم ينقص السعودية سوى الغرق في رمال اليمن وبين صخور جبالها الشامخة، هذا بعد أن فشل "الإسرائيلي" في القضاء على مقاومة "حزب الله" في لبنان، وعلى المقاومة في غزة، فحلّت سياسة العناد عند حُكّام السعودية، عوضاً عن سياسة توزيع الأموال وشراء الضمائر التي تميّزوا بها.
هكذا وظّف آل سعود بمشاركة أميركية علنية، "تيارَ المستقبل" برئاسة سعد الحريري ليتولى إسقاط مشروع المقاومة في لبنان، بالسياسة وبغيرها، ولو عبر إنشاء ميليشيات وشركات أمنية، لكن ذلك سقط خلال ساعات في 7 أيار 2008، وتلاه سقوط الحريري من رئاسة الحكومة وهو على باب أوباما في واشنطن، ومنذ ذلك الوقت بدأت سياسة الانتقام السعودي من الحريري ومن حزبه (المستقبل)، لفشله في تنفيذ الرغبات السعودية والأميركيين في التخلُّص من المقاومة، عبر تأليب الفاعلين في هذا حزبه و"تياره" ضد رئيسهم، أمثال أشرف ريفي وخالد ضاهر ومعين المرعبي وسواهم، ولم يكتفِ السعودي بضرب الحالة الحريرية من الداخل، بل حاربها بمصادر عيشها ومكامن نفوذها: المال، فدفع شركات الحريري في المملكة إلى الإفلاس، خصوصاً شركة "أوجيه"، واضعاً الحريري أمام الأمر الواقع؛ إما أن ينتهي سياسياً وشعبياً، وإما أن يعود إلى رئاسة الحكومة بشروط تجعله ممسكاً بالاقتصاد اللبناني، من جهة، وقادراً على خوض حرب المملكة و"إسرائيل" ضد "حزب الله".
فهل سينجح عقل العناد والانتقام السعودي في تنفيذ مراميه، أم يخرج لبنان سليماً من الشظايا التي تصيبه نتيجة هذا التأزُّم السعودي؟